مقاومة إسرائيل قبل التخلص من الاستبداد بالضرورة

مقاومة إسرائيل قبل التخلص من الاستبداد بالضرورة
سري سمور
مقاومة إسرائيل قبل التخلص من الاستبداد بالضرورة

بقلم: سري سمور

(1)
لفترة ليست قصيرة سادت قناعة بأن تحرير فلسطين، بل مقاومة الاحتلال الصهيوني بحد ذاتها، لا يمكن أن تنجح أو تستمر إلا بزوال الأنظمة العربية التي جعلت من نفسها حارسا لحدود الكيان العبري، تحت حجج مختلفة (الحفاظ على السيادة.. منع تدمير الدولة.. قوة الدولة تقوي من موقف الفلسطينيين..) وهذه القناعة التي تحولت عند بعضهم إلى ما يشبه أيديولوجيا.. ورأينا شعارات من قبيل أن طريق تحرير القدس يمر عبر هذه العاصمة أو تلك!

وإذا كان هذا المنطق صالحا أو مستساغا في وقت ما، فإنه غير صالح لهذا الزمن أقله في الوقت الحالي.

(2)
فجدلية أيهما العربة وأيهما الحصان يجب أن تحسم عند جميع من يؤمنون بخيار المقاومة من الفلسطينيين وغيرهم؛ فزوال أو تقليم أظافر الاستبداد المتواطئ بالضرورة مع المشروع الصهيوني، يجب أن يسبقه ضرب الكيان العبري وصولا إلى تفكيكه وليس العكس.


جدلية أيهما العربة وأيهما الحصان يجب أن تحسم عند جميع من يؤمنون بخيار المقاومة من الفلسطينيين وغيرهم؛ فزوال أو تقليم أظافر الاستبداد المتواطئ بالضرورة مع المشروع الصهيوني، يجب أن يسبقه ضرب الكيان العبري وصولا إلى تفكيكه وليس العكس
فالكيان العبري أنشأته القوى الإمبريالية في المنطقة، ويجب أن يكون محاطا بأنظمة لا تعمل على مقاومته بل على تثبيط وإحباط محاولات التصدي له.

فضعف وتراجع السلطنة العثمانية وفقدانها الحكم والسيطرة على بلدان وأقطار كانت تحت حكمها، خلق فكرة الدولة القُطرية؛ التي بات الحفاظ عليها عند من يحكمها وعند قطاعات لا يستهان بحجمها ممن يعيشون فيها شيئا مقدسا، وأهم وأولى من التفكير باسترداد أراض خارج حدوها.

وصار همّ النظم الحاكمة - بغض النظر عن شعاراتها وهويتها - هو البقاء في الحكم ولو حتى على حساب مصالح حيوية تهم القُطر الذي يحكمه أي نظام منها؛ فكيف سينظرون إلى فلسطين المحتلة؟

(3)
تحتاج أي مقاومة إلى أكثر من عامل مساعد كي تستمر حتى تحقق أهدافها كليا أو جزئيا، كما تبرهن كل التجارب التاريخية.

العامل الأول هو حاضنة شعبية، والعامل الثاني وجود قوة دولية أو إقليمية أو دولة ذات إمكانيات تدعمها أو تتبناها، وقطعة أرض آمنة نسبيا تتحرك وتنطلق منها.

ولا تفتقر المقاومة الفلسطينية ولم تفتقر يوما إلى الحاضنة الشعبية.. أما الدولة/ القوة الداعمة المساندة فعليا، فقد كانت هذه المسألة وما تزال معضلة المقاومة الفلسطينية؛ فهي في بعض الأزمنة حصلت على مأوى وأرض تنطلق منها ولكن خسرتها، بغض النظر عن الأسباب؛ سواء أكانت بسبب أخطاء وممارسات ارتكبتها أو بسبب كون الدول التي آوتها لا تريد أن تصبح مسرحا لعمليات انتقامية إسرائيلية.


لا تفتقر المقاومة الفلسطينية ولم تفتقر يوما إلى الحاضنة الشعبية.. أما الدولة/ القوة الداعمة المساندة فعليا، فقد كانت هذه المسألة وما تزال معضلة المقاومة الفلسطينية؛ فهي في بعض الأزمنة حصلت على مأوى وأرض تنطلق منها ولكن خسرتها، بغض النظر عن الأسباب
هنا يجب أن نضع في الحسبان أن المشروع الصهيوني ومن يدعمونه يدركون أهمية تأمين حدوده والحدود التي تليها كي يظل آمنا من الهجمات، ويظل الشعب الفلسطيني في الداخل محاصرا، لا يأتيه المدد، فينتابه يأس وقنوط من جدوى المقاومة أو حتى مجرد التفكير بها.

وبأساليب سياسية وعسكرية واستخباراتية وبالتأكيد اقتصادية، تمكنت إسرائيل من تأمين الحدود لدرجة أن الطائر لا يدخل أرض فلسطين إلا برقابة مشددة جدا، ليس فقط من الكيان العبري الذي يتمتع بقدرات عالية جدا تقنيا وأمنيا، بل من الأنظمة العربية حوله، تحت حجج ومبررات معروفة تسوقها تلك الأنظمة، والتي لا تخجل من أنها فعليا تعمل على حراسة حدود إسرائيل.

ومع ذلك فإن إسرائيل لا تأمن التغيرات المتسارعة، ولذا تبني الجدران الإلكترونية المحصنة حتى على حدود دول بينها وبينها اتفاقيات سلام برعاية أمريكية.

(4)
بخصوص الدعم من قوة دولية فإن إسرائيل حالة خاصة تاريخيا، حيث أن هناك ما يشبه الإجماع الدولي على وجودها وتأمينها وتقوية شوكتها؛ فحين قامت تسابقت واشنطن وموسكو على الاعتراف بها، وبقية الدول الكبرى والعظمى (أوروبا والصين) لا تقل في مواقفها العملية والقولية عن الأمريكان.

وهنا حال المقاومة الفلسطينية يختلف عن نظيرتها الفيتنامية التي تلقت دعما من الروس والصينيين، إضافة إلى وجودها في بيئة الغابات التي سهلت عليها المناورة.

وبناء على هذا الاحتضان الدولي للمشروع الصهيوني لم توجد ثغرة تشجع قوة إقليمية على دعم المقاومة؛ فمثلا استغل جمال عبد الناصر أفول حقبة الاستعمار الأوروبي وقدم الدعم للثورة الجزائرية، وهي أيضا عملت في بيئة الجبال التي ساعدتها، في وقت كان العالم يستعد لتسليم القيادة للأمريكان والسوفييت، ولكن في حالتنا الفلسطينية لم يوجد مثل هذا الظرف الدولي التاريخي.

وفي حالة المقاومة الأفغانية وهي محل الحديث الإعلامي حاليا فإنها، سواء في زمن محاربة الغزو السوفييتي أو الاحتلال الأمريكي حظيت إما بالتبني الباكستاني على حدودها الشرقية والجنوبية (2600 كيلومتر) إبان الحرب الباردة، أو باستغلال ثغرات بنيوية في الدولة الباكستانية خاصة جهاز الاستخبارات إبان الاحتلال الأمريكي، استغلتها جيدا، ناهيك بالطبع عن الطبيعة الجبلية الوعرة والمساحة الشاسعة التي رفعت كلفة الاحتلال.


فلسطين كانت وما تزال حالة مختلفة، ولكن نافذة أمل فُتحت بعد ثورات الربيع العربي، فلا ننسى ما جرى إبان الحرب على غزة في 2012
فلسطين كانت وما تزال حالة مختلفة، ولكن نافذة أمل فُتحت بعد ثورات الربيع العربي، فلا ننسى ما جرى إبان الحرب على غزة في 2012.

ولكن اتضح بعد سنة أو أقل أن هذه "جمعة مشمشية"، فسرعان ما تقدمت الثورات المضادة، التي لا يمكن أن نستبعد أنها ممهورة بالختم الإسرائيلي، ولا ننسى أنه منذ اليوم الأول للانقلاب في القاهرة أغلق معبر رفح، وهدمت الأنفاق وشرع في بناء العوائق والمناطق الأمنية مع قطاع غزة لدرجة هدم مدينة رفح المصرية التاريخية.

وسارع الداعمون للثورات المضادة مؤخرا إلى تطبيع العلاقات علنا مع إسرائيل، وتشكيل تحالف مكشوف معها في كافة المجالات.

هذا أعاد إلى النقاش فكرة ضرورة التخلص من الأنظمة الاستبدادية كقنطرة لمقاومة المشروع الصهيوني وتحرير فلسطين.

ولكن هذه الفكرة "انتحارية"، فالأنظمة تمتلك أدوات قمعية رهيبة ومواجهتها ستجعل إسرائيل في راحة واسترخاء وتشف، وتستكمل خلالها مشروعها التهويدي بمنتهى الراحة، وتقريبا نتيجة خوض هكذا مواجهة محسومة لصالح الأنظمة.

(5)
ولقد برهنت معركة "سيف القدس" في أيار/ مايو الماضي على أن ضبط البوصلة نحو القدس، وضرب الكيان العبري، يخلق حالة من الوحدة الشعورية بين مكونات الأمة، ويحصر ويعزل المطبعين أو من لا يؤمنون بالمقاومة أو يقفون في وجهها، فإما أن يسيروا مع التيار أو أن ينكفئوا، وكانت درسا عمليا يمكن البناء عليه والاستفادة منه.


برهنت معركة "سيف القدس" في أيار/ مايو الماضي على أن ضبط البوصلة نحو القدس، وضرب الكيان العبري، يخلق حالة من الوحدة الشعورية بين مكونات الأمة، ويحصر ويعزل المطبعين أو من لا يؤمنون بالمقاومة أو يقفون في وجهها
وعليه، فإن على المقاومة وعلى من يريد الخلاص من الاستبداد وإفشال تغوّل وتمدد الثورات المضادة؛ أن يسعى ويجتهد فقط في هذه المرحلة إلى مواجهة المشروع الصهيوني، ويتوقع من ذلك نتائج منها:

1- الثورات المضادة كانت لحماية إسرائيل وتأمينها، ولهذا حظيت بدعم دولي، ولكن عندما يستمر ضرب إسرائيل سيقتنع الداعمون لها في أروقة العواصم الكبرى أنهم استثمروا في ما لم يجد نفعا، وسيتوقفون عن دعمها أو على الأقل سيقلصون دعمهم لدرجة تجعلها هشة.

2- ستظهر بعض الوحدات السياسية والعسكرية في أنظمة الاستبداد وكأنها فرقة متحالفة أو حتى تابعة للجيش الإسرائيلي، وهذا سيجعل وضعها حرجا ومكشوفا، ويحسم خيار المترددين والمخدوعين والمتشككين. وهذه فئات لا يستهان بحجمها، وما زالت تظن خيرا في أنظمة الاستبداد وتعتبرها "وطنية" وترى خصومها "عملاء"، وعندما يظهر مثل هذا الحلف البغيض سينضمون إلى الحلف المجيد.

3- ستنشغل إسرائيل بأمنها والدفاع عنه كأولوية قصوى تجبرها بالضرورة هي والقوى الغربية على التخلي عن المستبدين وتركهم لمصيرهم، وبالتالي يكون الخلاص من هؤلاء تحصيل حاصل يمكن أن يتم بهبات شعبية محدودة الخسائر، مع شرعنة ضمنية للخلاص منهم باعتبارهم بيدقا إسرائيليا في قلب الأمة.

إضافة إلى ذلك فإن العالم يشهد تغيرات دراماتيكية متسارعة لو فكرنا فيها جيدا فإنها لا تسير في صالح المشروع الصهيوني، ولو بدا العكس لأول وهلة، فليس معقولا أن يظل العالم بكل مقدراته العسكرية والاقتصادية وخياراته السياسية رهينة سيطرة ستة ملايين يهودي على شعب فلسطين وأرضها، حتى ولو ازدادت روابط التحالف بين إسرائيل وأطراف عربية كما نرى.

المهم أن طريق الحرية والخلاص من الاستبداد يمر عبر مقاومة إسرائيل المستمرة وليس العكس.

التعليقات