عاجل

  • بلدية غزة: 50% من آبارنا تم تدميرها بالإضافة لتدمير 42 ألف متر من شبكات المياه

  • شرطة جامعة ولاية إنديانا:اعتقال 23 شخصاً نصبوا خياماً بهدف شغل مساحة من الحرم الجامعي إلى أجل غير مسمى

من نيويورك.. تبدو الصورة أكثر وضوحاً

من نيويورك.. تبدو الصورة أكثر وضوحاً
معتصم حمادة
من نيويورك.. تبدو الصورة أكثر وضوحاً

 معتصم حمادة     

عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

 ما جرى في نيويورك، في 18/9/2023، على هامش الدورة العادية الـ 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة، ليس حدثاً عادياً، بل هو حدث سياسي بامتياز، ستكون له تداعياته الملموسة على مسار القضية الفلسطينية، ومبادرة الرئيس الأميركي جو بايدن لتطبيع العلاقات بين العربية السعودية وإسرائيل، ودمج إسرائيل في المنطقة، وتعميم التطبيع العربي الإسرائيلي، كإستراتيجية أميركية هادفة إلى خوض معركة النفوذ ضد تمدد النفوذين الصيني والروسي في الإقليم، والعودة إلى فرض الإجراءات القسرية الأحادية (الحصار) على إيران، تحت حملة دعاوية، تعيد الحياة إلى الرواية الأميركية بأن إيران، وليست إسرائيل هي الخطر على المنطقة ومصالح أنظمتها وشعوبها.

الجديد في إجتماع نيويورك، أنه تمَّ بدعوة مشتركة من العربية السعودية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والاتحاد الأوروبي، وأن مصر والأردن كانتا مجرد مدعوين، مثلهم مثل الـ50 وزير خارجية، الذين تصادف وجودهم في نيويورك الذين حضروا الاجتماع. والجديد في الاجتماع، أنه رغم إعتراف جوزيف بوريل مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، بأن السلام في الشرق الأوسط، ما زال بعيد المنال، وأن لا إشارة في الأفق تنبئ بإقتراب «حل الدولتين»، فإن الاجتماع، كما دعا له شركاؤه، إنصب على هندسة خطة لتوفير «حزمة دعم للسلام» في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والإنسانية، مدتها عام واحد، يفترض كما ورد في البيان الختامي، مراجعة نتائجها في أيلول (سبتمبر) من العام القادم، في الدورة القادمة للأمم المتحدة.

كذلك كان لافتاً للنظر أن الاجتماع عقد بغياب الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، لعدم دعوتهما للحضور، وأن أحد أعضاء البعثة الفلسطينية في الأمم المتحدة نفى علمه بالإجتماع ومضمونه، وهو نفي إما يعبر عن حقيقة عدم معرفة (وهذا أمر مستغرب أن يعرف بالإجتماع 50 وزيراً ممن شاركوا في دورة الجمعية العامة، ولا تعرف به البعثة الفلسطينية، وإما هو محاولة لاستغباء العقول وقطع الطريق على أسئلة تطال ما جرى في الاجتماع، قد يجعل من الإجابة عليها إحراجاً إما للفلسطينيين، وإما لعراب الاجتماع العربية السعودية).

صحيح أن البيان الختامي للاجتماع، والذي نشرت عنه وزارة الخارجية المصرية، نسخة على حسابها على الفيسبوك، قد اعترف أن العملية السياسية معطلة منذ شهر نيسان (إبريل) 2014، لكن الصحيح أيضاً أن الكل أعفى نفسه من واجب تحديد مسؤولية من عطل هذه العملية، خاصة وأن وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق جون كيري، والذي أعلن بنفسه توقف عملية السلام وموتها، كان قد حمل إسرائيل مسؤولية هذا التعطيل، وإذا كان موقف رعاة اجتماع نيويورك محاولة لاتخاذ موقف محايد، فإنها محاولة لا تؤسس لخطوات ناجحة، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن البيان لا يكف عن التأكيد على اعتماد قرارات الأمم المتحدة، والقوانين الدولية أساساً للحل، في وقت يعرف فيه الجميع أن الغالبية العظمى من هذه القرارات، إن لم نقل كلها، تحمل إسرائيل مسؤولية تعطيل حل القضية، عبر تعطيل قرارات الأمم المتحدة نفسها.

وصحيح أيضاً أن البيان يعترف أن 30 عاماً من «إتفاق أوسلو» لم تنجح في إقامة السلام، (وما نعنيه هنا بالسلام هو مجرد عبارات وردت في البيان، وإن كنا لا نرى أن القضية هي قضية حرب وسلام)، إلا أنه في الوقت نفسه، لم يضع النقاط على الحروف، فأبقى المسألة غائمة، مغيباً الطرف المسؤول عن التعطيل (مرة أخرى) وفيما إذا كان أوسلو، بعد 30 عاماً، ما زال صالحاً أساساً للحل عبر مفاوضات ما يسمى «قضايا الحل الدائم»، التي كان من الواجب إنجازها في فترة المرحلة الانتقالية من الاتفاق، التي كان يفترض أن تبدأ في أيار (مايو) 1996، وأن تنتهي في الشهر نفسه من العام 1999.

وصحيح أيضاً أن البيان دعا الطرفين معاً (الاحتلال والقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية) إلى وقف الأعمال الأحادية التي من شأنها أن تقوض «حل الدولتين»، وأن تقوض «مفاوضات الحل الدائم»، غير أنه في الوقت نفسه، ساوى بين «مصادرة الأرض والاعتقالات وهدم المنازل والقتل)، وبين ما أسماه «العنف والتحريض» (المقصود بذلك المقاومة)، في وقت يدرك جهابذة الدبلوماسية، عرباً وأوروبيين، أن إجراءات الاحتلال تترك آثارها المادية على الأرض (الاستيطان وبناء مستوطنات جديدة، وشق طرق إلتفافية ... الخ) وبين أعمال مقاومة شعبية، تندرج في سياق رد الفعل على جرائم الاحتلال، وعندما ينتهي الاحتلال وتنتهي جرائمه، تنتفي الحاجة إلى «العنف والتحريض».

أما اللغم الأكبر في البيان، فهو الحديث عن الدولة الفلسطينية التي من المفترض أن تقوم في إطار «حل الدولتين» (الذي يعترف بوريل أنه بعيد المدى، وأن لا آفاق تبشر بقرب حضوره، ومع ذلك يدعو الفلسطينيين إلى الصبر على بلاء الاحتلال وبلاء المستوطنين).

الدولة الفلسطينية وعلاماتها

البيان يدعو إلى «دولة فلسطينية ذات سيادة مستقلة، وعلى أساس خطوط 4 حزيران (يونيو) 67، و«قابلة للحياة» وهو تعبير يمهد لما بعده، حين يؤكد على احترام خطوط 4 حزيران (يونيو) «إلا إذا رغب الطرفان (الفلسطيني – الإسرائيلي) في إجراء تعديلات عليها».

ووفقاً للقوانين والتفاسير، فإن ثمة بونا شاسعاً بين الحديث عن «خطوط 4 حزيران حدود لدولة فلسطين، وبين الحديث عن هذه الخطوط باعتبارها مجرد «أساساً»، فالأولى خطوط ثابتة لا مجال للتلاعب بها، أما الثانية فهي موضوع تفاوضي، قابلة للتعديل، ولا يحتاج المرء ليكون عبقرياً حتى يدرك الدعوة الصريحة إلى التعديل، كما هي في البيان، فهو بوابة مفتوحة (وليست مجرد ثغرة في جدار) من أجل توفير «حل» لقضايا الاستيطان، التي وإن كانت الأطراف المقررة في «المجتمع الدولي» تخطئ وتدين الاستيطان، إلا أنها لا تكلف نفسها عناء خطوة عملية واحدة للضغط الفعلي على الاحتلال لوقف استيطانه.

وما يفسر بوضوح أكثر، المنطق الداعي إلى اعتبار خطوط حزيران أساساً لـ«حدود الدولة الفلسطينية»، ويحرص على إبقاء بوابة «التعديل» مشرعة، للقفز عن مسألة تفكيك الاستيطان، وإعادة الأرض الفلسطينية لأصحابها، وجبر الضرر، هو عدم إشارته إلى دولة ذات إقليم واحد، بل يدعو إلى دولة «متصلة». وفي العودة إلى اللغة العربية، وإلى جانبها اللغة الإنجليزية، فإن عبارة «متصلة» تعني أنها مقطعة الأوصال، في بقع جغرافية متناثرة، «تتصل» فيما بينها بوسائط معينة كالجسور والعبارات والأنفاق (المسيطر عليها إسرائيلياً) أو الطرق الإلتفافية، أو الحواجز والمواقع العسكرية، أما الدولة ذات الإقليم الواحد، كفرنسا مثلاً، أو ألمانيا (على سبيل المثال) فهي دولة متواصلة، أي تتواصل أجزاؤها دون وسيط (إيطاليا، الولايات المتحدة)، وبالتالي نحن أمام «دولة» تسبح في بحر من الاستيطان والاحتلال، باستطاعته نقل حاجز من مكان إلى آخر، وشق طريق إلتفافي معين، أن يعيد رسم «حدود الدولة» المبنية على «أساس خطوط 4 حزيران» التي لن يعود لها وجود فعلي، سوى في أذهان من يعيد قول هذه الأكذوبة.

وفي السياق، نحن أمام دولة بلا عاصمة، إذ لا ذكر لأي عاصمة للدولة الفلسطينية. البيان يشير بمكان آخر إلى القدس الشرقية، لكن ليس من باب كونها عاصمة للفلسطينيين، بل من باب عدم إدخال تغيير على بنيتها الديموغرافية، ومن باب عدم المساس بالمقدسات فيها، والتأكيد في الوقت نفسه على الوصاية الهاشمية للمقدسات، لا نعتقد أن تجاهل القدس عاصمة للدولة الفلسطينية قد سقط سهواً، خاصة وأن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 67/19 اعتراف بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن 139 دولة تعترف بدولة فلسطين وعاصمتها القدس، وأن القدس هي المفجر الذي زرعه الثنائي كلينتون – باراك لتعطيل مفاوضات «الحل الدائم» في «كامب ديفيد 2» (تموز 2000).

الأهداف المباشرة والمعلنة لمشروع «الحزمة»

يتبنى مشروع «الحزمة» سلسلة من الأهداف تجمع بين السياسة والأمن، والاقتصاد، والقضايا الإنسانية، ويشكل لهذه الأغراض مجموعات اختصاص من الوزراء والخبراء وغيرهم، أبوابها مفتوحة لمشاركة الجميع، تضع لمساتها الأولى لتشكيل اللجان حتى كانون الأول (ديسمبر 2023)، وترسم كل منها لنفسها خطة عمل تمتد إلى أيلول (سبتمبر) 2024، حيث تلتقي الأطراف المعنية مرة أخر في نيويورك لإجراء المراجعة المطلوبة.

يرافق الحديث عن اللجان حديث عن الأمن والاستقرار في المنطقة، وآثار ذلك على المصالح الأوروبية، وتوسيع العلاقات والتعاملات البينية في الإقليم، في إشارة واضحة إلى خطط التطبيع المرسومة للمنطقة.

وإستناداً إلى حديث بوريل، فإن «المشروع» شكل من أجل المتابعة حتى نهاية العام القادم ثلاث لجان: محلية وإقليمية ودولية، ولا نعتقد أن هذه اللجان بحاجة إلى تعريف انطلاقاً من تحديد بوريل لملعبها.

ويعتبر البيان أن عمل هذه اللجان على تنوع وظائفها هو ملء الفراغ السياسي، والتمهيد لما يسمى «يوم السلام» حين يلتقي الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني للإتفاق على «حل الدولتين»، وعندها ستنهمر على الطرفين، خاصة الفلسطيني منهما، المساعدات والجوائز والمحفزات، ووضع نهاية للوضع غير المستقر، الذي تتخوف أو ربما يمتد لهيبه إلى الجوار العربي، للأراضي الفلسطينية المحتلة.

في أي سياق نضع هذه الخطوة «حزمة دعم عملية السلام»؟

لا يمكن لأي محلل أن يقرأ ما خلف السطور، دون أن يربط بين اجتماع 18/5/2023 في نيويوك وما يدور في إقليم الشرق الأوسط من تطورات.

أولاً: على الصعيد الدولي هي خطوة أوروبية مكشوفة، تتماشى مع الولايات المتحدة، لمنع «حدوث فراغ» في المنطقة، بسبب تعطل «عملية السلام»، وبالتالي من أجل إغلاق الأبواب أو سد المنافذ أمام روسيا والصين في الشرق الأوسط.

أحد أهم أهداف «الحزمة» هي الإيحاء بـ«ملء الفراغ»، والعمل على إعادة ضخ الدم في العملية السياسية، اعتماداً على المعادلة التالية، كلما تعقدت القضية الفلسطينية اتسعت الأبواب في ظل الحالة الدولية، لتدخل روسي وصيني، والعكس صحيح. فالقضية الفلسطينية هي مدخل «العنف والتوتر والفوضى» في المنطقة، وهي في الوقت نفسه «الطريق إلى الأمن والاستقرار والهدوء والسلام».

ثانياً: هناك إدراك أوروبي – عربي وكذلك أميركي، بالحاجة إلى إدامة وتجديد حياة السلطة الفلسطينية، وهذا يتطلب توقف إسرائيل عن إحراجها، بما يعيد للسلطة هيبتها لدى مواطنيها، كما تحتاج إلى دعم اقتصادي يخرجها من أزماتها المالية، فضلاً عن ضرورة توسيع صلاحياتها، خاصة التي استولت عليها دولة الاحتلال، وهذا يتطلب بالضرورة تجديد حياة «إتفاق أوسلو»، وتطبيق الجانب المعطل من قراراته، أي بتعبير غربي مكشوف يدّعي «إعادة الأمل بالمستقبل لدى الفلسطينيين».

ثالثاً: السير جنباً إلى جنب مع الإستراتيجية الأميركية لإعادة هندسة الشرق الأوسط، عبر المسارات الثلاثة، قصيرة حسب الوصف الأميركي، ومتوسطة، وبعيدة الأمد (أي مسار «العقبة – شرم الشيخ» لتهدئة الوضع في الضفة + مسار «منتدى النقب» لتعزيز «تحالف أبراهام» قبل أن يصاب بتصلب الشرايين في ظل ما تشهده الأراضي المحتلة من أعمال إسرائيلية عدوانية، ومقاومة باسلة، وتطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية من مدخل التطبيع السعودي – الإسرائيلي).

بوريل تحدث عن ثلاثة مسارات لإنجاز حزمة الدعم: محلي (إسرائيلي - فلسطيني)، إقليمي (عربي- إسرائيلي ودول أخرى)، ودولي (أوروبا وأميركا وأطراف إقليمية أخرى).

ولا يبدو هذا التطابق صدفة، بين مسارات بايدن ومسارات بوريل وحزمة «دعم السلام».

رابعاً: ما حدث في نيويورك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يدور من مباحثات أميركية – سعودية – إسرائيلية (وعلى الهامش يقف الجانب الفلسطيني) لتطبيع العلاقات، وكذلك خطوة تعيين سفير سعودي في رام الله، وقنصل في القدس، وما يتسرب من مشاورات ورسائل شفوية وغيرها، تهدف إلى هندسة الموقف الرسمي الفلسطيني، «ليستفيد من أخطائه في معارضة التطبيع الإماراتي – الإسرائيلي»، وبحيث يربط مصير بقاء السلطة الفلسطينية بنجاح «مبادرة بايدن».

خامساً: إذا ما ربطنا بين تولي العربية السعودية مبادرة الدعوة إلى اجتماع نيويورك في 18/9/2023، بتغطية وتعاون مع الاتحاد الأوروبي، وتحول الرياض إلى محور المباحثات الدولية حول مصير الشرق الأوسط، في القلب منه القضية الفلسطينية، والنقلة السعودية في اللحظة «التاريخية» لتعيين سفير لها في رام الله وقنصلاً في القدس، وتنشيط السفر على طريق رام الله – الرياض، ووعورة طريق عمان – رام الله، القاهرة – رام الله، يصبح من واجبنا السؤال عما يمكن أن يكون خلطاً للأوراق، وانزياحاً للمرجعيات من عمان، ومن القاهرة إلى الرياض.

أخيراً وليس آخراً أين موقف القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية من كل ما يجري، هل ضاع في زحمة المواقف، أم أن «حزمة دعم السلام» باتت بأعطياتها الموعودة، وضمان بقاء السلطة، تدغدغ أحلام السلطة وقيادتها.

فعلاً، وكما قال أحد الدبلوماسيين معلقاً على اجتماع 18/9/2023:

«من نيويورك، تبدو الصورة أكثر وضوحاً».

التعليقات