خالد مشعل.. التفاني والوفاء والقيادة الحكيمة

خالد مشعل.. التفاني والوفاء والقيادة الحكيمة
د. أحمد يوسف
خالد مشعل.. التفاني والوفاء والقيادة الحكيمة

بقلم: د. أحمد يوسف

لقد جاء خبر انتخاب الأستاذ خالد مشعل (أبو الوليد)؛ رئيس المكتب السياسي السابق، لقيادة حركة حماس في الساحات الخارجية، واختياره للدكتور موسى أبو مرزوق؛ أول رئيس لمكتب حماس السياسي، نائباً له، مما يمنح الحركة منسوباً عالياً من قوة الدفع والثقة الكبيرة في قدرات حماس على استعادة فاعليتها الحركيَّة والسياسية، والتمكين من جمع صفوفها وتوحيدها أمكانياتها وكوادرها في الداخل والخارج.

لا َّشكَّ أن هذه الثقة في الاختيار تعنى إطلالة حمساوية قوية على الكلِّ الفلسطيني، وتعزيز فرص التفاهمات والحوار والتحالفات، بما يعزز من قدرات مشروعنا الوطني على مواجهة الاحتلال والتصدي لسياساته العدوانية الظالمة في حصار شعبنا داخل قطاع غزة، و بالدرجة التي تُسجِّل حالة انتهاك احتلالية وجريمة حرب بحق الإنسان الفلسطيني.

في الحقيقة، لم يمكث أحدٌ في قيادة الحركة -بشكل رسمي ومنتخب- لأكثر من عشرين سنة، إضافة لعقدين قبلها، حينما كان يتولى الأستاذ خالد مشعل منظومة الأنشطة الطلابية في جامعة الكويت، حيث كانت "الكتلة الإسلامية" تمثل أبرز  أشكال التحدي أمام حالة التنافس على صدارة وقيادة النشاط الطلابي الفلسطيني في الجامعة.

إنَّ أول مميزات القيادة التي عرفتها في الأستاذ خالد (أبو الوليد) ولقرابة عمر زمني امتد لأربعين عاماً مثلّت درجة من التقدير والاهتمام، التي كان يمنحها لإخوانه؛ سواء من "أهل بدر" الذين سبقوا وبايعوا على السمع والطاعة، والالتزام بمتطلبات "عهد الجهاد والشهادة" لهذه الحركة، والتي بدأت إنطلاقتها العملية بعد هزيمة العام 1967، حيث شكَّل هؤلاء   بطاقاتهم الشبابية الحيِّة  العمود الفقري لقوة واتساع فعالياتها، من خلال الطلاب الذين تمَّ ابتعاثهم للدراسة في مصر وبعض الجامعات الخليجية، مثل جامعة العين التابعة لولاية أبو ظبي.

ولقراءة المشهد التاريخي والحركي الذي يمثله الأستاذ خالد مشعل بإنصاف، فإن الحقيقة تقتضي القول بأن الجميع من إخوانه كانوا يلمسون فيه طاقة استثنائية تُجسِّد روح القيادة بشكلها "الأبوي"، والذي تميَّزت به  شخصيته وأخلاقياته العالية، حيث كان من عادة الأستاذ خالد مشعل التواصل الدائم مع إخوانه، وتفقد حاجاتهم واحترام كل ما يتمخض عنها من تفاهمات على المستويات التنظيمية والنضالية.

 كان الأستاذ خالد مشعل يمتلك سماتٍ لا تخطئها العين في متابعة شؤون الحركة والتواصل مع كوادرها التنظيمة، كما أن دعمه المادي والمعنوي لإخوانه في الحركة يمثل "علامة فارقة" في رسم حدود شخصيته المتميزة من ذلك الجيل القرآني الفريد بين إخوانه من ناحية، ونخب المجتمع الفلسطيني من مختلف فصائل العمل السياسي والنضالي من ناحية ثانية.

لقد حافظ الأستاذ خالد مشعل (أبو الوليد) على هذه الأخلاقيات العالية، واحتفظ بمشهد علو الهمِّة في تفقد إخوانه ومتابعة شؤونهم؛ سواء أكانت مكانته تنظيماً في رأس الهرم الحركي أو عند ترجله للأربع سنوات الماضية، حبث كان يعمل فيها بصمت وهدوء، لإعادة تجديد الروح النضالية والإلتزام الحركي، الذي اهتز –نسبياً- في فترة شهدت فيها الحركة مواقف متباينة تخص مرجعيتها القيادية والسياسية، وذلك بدخول "العسكر" على خط التنافس على قيادة المكتب السياسي؛ سواء في الداخل أو الخارج.

خالد مشعل.. المسؤولية والمواقف بعد اعتقال د. أبو مرزوق 

إنَّ من أهم المواقع والمحطات التي عملت فيها مع الأستاذ خالد مشعل؛ سواء خلال فترة وجودي في أمريكا لقرابة العشرين عاماً، أو أثناء الفترة التي تعرض فيها د. موسى أبو مرزوق للسجن والاعتقال عام 1995، واستمرت قرابة السنتين، والتي أظهرت حقيقة ومكانة الأستاذ خالد مشعل كقائد حكيم، كان يتابع بجدارة وفعالية أخلاقية وإنسانية عالية تطورات الحالة التي كان يمر بها د. موسى خلال فترة اعتقاله في أمريكا، حبث كانت الأخطار والمهددات الأمنية كبيرة، نظراً لمطالبات نتانياهو وحكومته اليمينية المتطرفة فيها كبيرة لجهة تسليمه إلى إسرائيل ومحاكمته هناك بتهم التطرف والإرهاب.. كان نتانياهو يطالب  بتسليمه لإسرائيل، مستغلاً قوة تأثير اللوبيات السياسية اليهودية، والفاعلية الصهيونية مع تيار المحافظين الجدد والإنجيليين المتعصبين لإسرائيل، ولكنَّ حالة د. موسى أبو مرزوق كقائد سياسي، جعلت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس كلنتون تتردد في عملية تسليمه  وترحيله إلى إسرائيل لمحاكمته هناك، بادعاءات وتُهم لها علاقة بالتطرف والإرهاب، وقيادته لحركة فلسطينية تقاوم الاحتلال في مواجهات أمنية وعسكرية مفتوحة .

لقد لفت نظري خلال محنة الابتلاء التي تعرض لها د. موسى أبو مرزوق، والتي استمرت لسنتين تقريباً، وكنت فيها أحد أعضاء لجنة الدفاع عنه، والتعربف بقضيته ومظلوميته السياسية في العاصمة الأمريكية واشنطن. كان تواصل الأستاذ خالد مشعل بعائلة د. موسى للتأكد دائماً بأن العائلة تتوفر لها كل التغطيات والمتطلبات التي تحفظ كرامتها الإنسانية وعزة نفسها، وذلك بعدم حاجتها لأي دعم مالي آخر غير ما تتطلبه الحالة المعيشية والمصاريف العالية، والتي كانت الحركة تغطيها كمصاريف لطاقم المحامين المميزين قانونياً، والذي تمثل من المحامي المخضرم روبرت كنيدي، والبرفسور شريف بسيوني؛ أستاذ القانون الدولي والشخصية الأكاديمية والمهنية الأكثر حضوراً في مجال الأنشطة ذات الصبغة الحقوقية، وكذلك المحامي والناشط الحقوقي ستالني كوهين، الذي أدار القضية مع القضاء كقضية سياسية بالدرجة الأولى، وأن المسألة ليس لها أيِّة علاقات بملف التطرف والإرهاب، والتي بذلت فيها إسرائيل كل سطوتها السياسية والإعلامية، ومارست كل أساليب الخداع في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، لتبرير إجراءات اعتقال د. أبومرزوق، والعمل بالتواطؤ مع الجهات الأمنية الأمريكية على سجنه لاحقاً، من خلال شيطنته إعلامياً عبر حملات تحريضية ممنهجة، لعبت فيها الحركة الصهيونية واللوبي القوي (إيباك) دوراً تأثيراً في إلباس حركة حماس ثوب الشيطان، واتهامها وقياداتها السياسية بالتطرف والإرهاب!!

الانتخابات التشريعية والكسب السياسي الكبير لحركة حماس

بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية وتشكيلها لحكومة إسماعيل هنية (أبو العبد) في شهر مارس 2006، استطعت كمستشار سياسي لرئيس الحكومة من السفر إلى سوريا أكثر من مرة، والالتقاء بالأستاذ  خالد مشعل في مكتبه في العاصمة دمشق، حيث كانت مساحة الانسجام في التفاهم والحوار حول ضرورة عمل مراجعات جادة لتقديم الحركة في إطارها القيادي الأوسع، والذي أخذ يزاوج تدريجياً بين العمل السياسي والفعل المقاوم، وهذا هو ما أفضى –لاحقاً- لقبام حركة حماس بمراجعة بعضٍ من أدبيات وثائقها السابقة، والخروج بوثيقتها السياسية الجديدة في مطلع مايو 2017، والتي تعتبر مرجعية فكرية وإطلالة استراتيجية عند الحُكم والتقييم للحركة في مشهد الحكم والسياسة والفعل المقاوم للاحتلال، ومدى الانفتاح والمرونة والواقعية السياسية التي أخذت تُبديها حركة حماس محلياً وإقليمياً ودولياً، وهي حالة يرجع الفضل فيها في "التخذبل" عن الحركة للرجل الذي كان ومازال عنواناً لما هو قادم من مراحل تتصاعد فيها مكانة حركة حماس إلى مستوى سيرتها الأولى كعنوان نضالي مقاوم في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

باختصار.. الأستاذ خالد مشعل هو "رجل المرحلة" وصاحب الكلمة والقيادة الحكيمة.

كلمة أخيرة.. خلال فترة إصابتي بالكورنا ودخولي للمستشفي لمدة ثلاث أسابيع في مستشفى "أوك ميداني" باستانبول، كان الأستاذ خالد مشعل بروح الأخ الكبير من أكثر الذين تواصلوا بالسؤال للاطمئنان؛ سواء بالتواصل معي أو عبر زوجتي وأولادي، والدعاء لنا بظهر الغيب بتمنيات العافية والشفاء.

لاشكَّ أن هذا التواصل قد أثلج صدري ومنحني طاقة معنوية أمدتني بالقوة التي تتطلبها حالة المرء من الحضور بين الحياة والموت. والتأكد من سلامة ما يحفظ كرامة العائلة، خلال المحنة التي ألمَّت بنا في فترة الغربة والغياب المؤقت عن وطننا الحبيب وأهلنا وإخواننا الغوالي في قطاع غزة.

أخي خالد مشعل.. حافظ على رصيدك العالي بين إخوانك، وابق كما عهدناك رجلاً في أخلاقه آية، وأهلاً للوفاء لكل إخوانك الذين منحوك البيعة والعهد والثقة العالية والحب والتقدير المميز لك بين كل إخوانك.    

وأخيراً.. أن تكون قائداً متميزاً يسمع لك إخوانك والناس ممن حولك، فهذا يعني أن الكثير من أشكال العظمة تهجع بين يديك. وكما قال "أندري تاركوفسكي": نحن لا نرتب أماكن الأشخاص في قلوبنا، أفعالهم تتولى ذلك.

التعليقات