لن أنتخب من يُـطَيّر العصافير

لن أنتخب من يُـطَيّر العصافير
لن أنتخب من يُـطَيّر العصافير

بقلم: سامي أبو سالم

انطلقت بنا السيارة من معبر رفح، جنوب غزة، إلى القاهرة قبل عام بالضبط. كانت المركبة من نصيبنا هي مرسيدس قديمة (7 ركاب)، حملت امرأتين والبقية رجال، في الكرسي الخلفي ثلاثة أشخاص لم تتوقف فكوكهم عن الأكل طوال الرحلة التي امتدت 12 ساعة؛ شطائر وفواكه وأكياس "الشيبس" المزعجة بخروشتها. في الكرسي الأمامي بجانب السائق (الأكثر راحة) رجل أواسط الستينات، بشارب أبيض محفوف بعناية.

لم تكن الرحلة سهلة، فالطرق الرئيسة التي اعتدنا عليها قد تغيرت؛ جنود مصريون معرضون في أي لحظة لهجوم إرهابي، يقفون على أهبة الاستعداد على مدار الساعة، بعضهم مرئي وآخرين وراء سواتر... كان التوتر يخيم علينا تخوفا من أي هجوم مفاجئ قد يستهدف الجنود بحضرتنا، نخاف على أنفسنا، وعلى الجنود ايضا، يزداد التوتر سواء مع اقترابنا لأحد الكمائن أو بسبب صوت "تلمّظ" الثلاثة في الكرسي الخلفي.

لم يكسر رتابة الطريق إلا الرجل الأنيق ذو الشارب الأبيض. اتسم بالنباهة والدبلوماسية وعذوبة اللسان، كشف حديثه عن مهارة في التعامل مع الآخرين، على كل حاجز (كمين) يمازح الجنود المتأهبين ويمطرهم بوابل من الأدعية.

طلبَت منه إمرأة أن يبدّل الكرسي الأمامي معها بسبب "ألم في قدمها" فرفض بسبب "آلام في ظهره". عندما هبطنا للراحة في أحد المقاهي همس في أذني أنها غير صادقة وقدمها لا تؤلمها وهي ذاهبة للتسول في القاهرة!

أتخمنا ببعض النُكت والقصص الشيقة من خبرته في الحياة. شعرت لوهلة انه صحفي سابق بسبب عدم تفويته لجملة مبهمة، فيجب أن توضح ما تقول، ومن المتحدث وأين يقطن وابن مَن، لكن في سياق أحاديثه تبين أنه عمل في سلك الشرطة.

وصلنا "المعدية" على قناة السويس، وكان الليل قد أرخى سدوله، أخذت السيارة دورها في طابور للتفتيش، تحدث أحد الركاب بأسف عن شبان في مقتبل العمر رآهم في معبر رفح، مغادرون إلى غير رجعة، بحثا عن الحياة.

كنت قد قابلت أحدهم في صالة المغادرة، شاب في مقتبل العمر، سرّح شعره باتقان، يجلس متخشبا على كرسي الانتظار ممسكا بشنطة السفر وكأنها طفل يخشى ان يفقده، يحملق في مكبر الصوت الذي ينادي على أسماء "المحظوظين".

كان اللامكان وجهته، أنهى دراسته الجامعية في غزة قبل 4 سنوات، عمل بشكل متقطع في أحد المخابز بعشرين شاقلا (6 دولار) في اليوم الواحد مقابل 12 ساعة عمل. قال إنه متوجه لتركيا لينطلق بعدها إلى اليونان ومن بعدها إلى "أي داهية، المهم ميضلش في غزة".

أدلى الركاب بآرائهم بين معارض ومؤيد، أحدهم عبر عن استغرابه من سماح أهالي هؤلاء الشبان لأبنائهم بالخروج.

فجأة، إنفجر ذو الشارب الأبيض غاضبا، وكشف عن ما أشبه بالوجه الآخر، التفت من كرسيه الأمامي، وقال غاضبا: "فش أب في العالم بيحب اولادو يعيشوا بعيدين عنّو، هدول الأولاد بيدوروا على مستقبلهم، شو يضلهم يعملوا في غزة...".

خيم الصمت على من في المركبة، حتى الثلاثة في الكرسي الخلفي توقفوا عن المضغ. أشعل ذو الشارب الأبيض سيجارة وأخذ ينفذ دخانها بغضب على الزجاج الأمامي للسيارة، فيتوزع على الزجاج حاجبا الرؤية لدى السائق الذي لم يجرؤ أن يطلب منه اطفائها.

وقال بقهر: " أنا أولادي ربيتهم وعلّمتهم، كنت أستنة فيهم يكبروا، ولما كبروا طاروا من ايدي زي العصافير واحد ورا التاني، ورفع يديه ليرتطما بسقف السيارة المهترئ..."

لم أر دمعته، لكن شعرت بها على وجنتي. نزل من السيارة، وضع يديه في جيبي بنطاله وأخذ يمشي باتجاه قناة السويس، لحقت به، وقص حكايته، أنهى دراسة القانون في مصر أواخر السبعينات، كان يعيش حياة "7 نجوم في الامارات" خلال عمله في سلك الشرطة هناك، وبعد اتفاق أوسلو قرر العودة إلى غزة، ورفض فرصا كثيرة للهجرة إلى أوروبا، أراد أن يعيش في فلسطين وبين أهله، ولن يتخلى عن الهوية الفلسطينية، لكنه لم يكن يعلم أن أولاده سيطيروا من بين يديه.

عوني بعلوشة، من شمال غزة، والد لسبعة من البنات والبنين، تزوج اثنان منهم ولم يحتملوا الحياة "فطاروا" خارج غزة، ثم طار إثنان آخران قبل الزواج. كان عوني في طريقه لزيارة إبنه "عامر" في القاهرة.  بقي ثلاثة من أبنائه في غزة وربما يلحقوا باخوتهم.

صباح اليوم، ما أن فتحت جهاز الحاسوب حتى وقعت عيناي على "عصفور" آخر، الشاب كامل عرفات احتفل بتخرجه العام الماضي من كلية الهندسة، ودّع أهله أول أمس وانطلق إلى "مجهول ربما يجد به بصيص أمل" كما كتب عمه جلال عرفات.

التعليقات