"من الهرمية إلى الشبكية" رؤية استشرافية لعالم منتصف القرن العشرين

"من الهرمية إلى الشبكية" رؤية استشرافية لعالم منتصف القرن العشرين
رام الله - دنيا الوطن
يرصد إبراهيم غرايبة في إصداره الجديد "من الهرمية إلى الشبكية" حجم التحولات الضخمة التي تحدث من حولنا، والمرتبطة بما أصبح يُطلَق عليه "الثورة الصناعية الرابعة".

ويقدم رؤاه في هذا العمل محاولًا أن يذلل الصعوبة المتعلقة بعلاقة
العالم العربي باستحقاقات هذه الثورة، التي يقف أهل هذا العالم أمامها متفرجين في الصفّ الأخير من مسرح الأحداث والتطوّرات العلمية والتكنولوجية المتسارعة في الغرب، وفي أجزاء من شرق آسيا في حقبة العولمة المعاصرة.

ويتكوّن الكتاب الصادر عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان من 420 صفحة من القطع الكبير، موزّعة على 6 فصول. واعتمد المؤلف في إنجازها مجموعة من الدراسات العالمية الرصينة والعميقة في مختلف حقول المعرفة.

ويبدأ الكتاب بموجز في تاريخ التقدّم الإنساني، وتتبع موجات التطوّر البشري والإنساني من الزراعي وتطوّر طرق التجارة في العالم القديم من طريق الحرير وإيلاف قريش، إلى الصناعي والثورة الصناعية في أوروبا وتطوّر المدن في القرن الثامن عشر، واستخدام الأرقام العربية في أنظمة المحاسبة العالمية بداية من القرن الثالث عشر الميلادي وصولًا إلى الموجة الثالثة والرابعة المتمثلة بالحوسبة أو الشبكية.

وظهرت مفاهيم ومقاربات جديدة مثل إنترنت الأشياء، والاتصالية الجديدة، والبيانات الضخمة، والتعلم العميق، والذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي، والسحابة المعلوماتية، وغيرها من المفاهيم التي أفرزتها المنظومة المعرفية المنتجة لهذه التكنولوجيا، والتي تقف اللغة العربية حتى الآن عاجزة عن استيعابها أو ترجمتها لأنّها تولدت من حضارة أخرى.

ويشير غرايبة في كتابه إلى أهمية هذا النوع من البحوث مؤكدًا أن "الحديث عن هيمنة التكنولوجيا على المعنى ليس توقعًا مستقبليًّا ولا فكرة نظرية، لكنّه أمر واقع يتشكّل أسرع مما يتوقع معظم الناس، وربما يكون العالم بحلول منتصف القرن الحالي عالمًا آخر مختلفًا في تنظيمه ومؤسساته وأعماله وأفكاره وقيمه، ويمكن في هذه المساحة أن نفكّر في مجموعة القضايا والأفكار العملية المطروحة في الفضاء العام".

ويتحرى المؤلف التحولات الضخمة التي تجري على مختلف المستويات، المعرفية والاقتصادية والثقافية والسياسية والمجتمعية، والاتجاهات التي تتشكّل من خلال ذلك، في رحلةٍ تشمل فصول الكتاب جميعها، ينتقل خلالها ما بين روايات الخيال
العلمي واكتشافات البحث العلمي والتحولات الاجتماعية والثورات العلمية التاريخية في محاولة لاكتشاف ملامح عالم جديد هو في طور التشكل.

ويحاول غرايبة جاهدًا أن يوطّن كثيرا من المفاهيم والمصطلحات، حتى تطاوع القارئ العربي العادي من خلال ربطها باستخداماتها الكثيرة الموجودة بين أيدي المستهلكين العرب. خاصّة أنّ الشبكية قد تحوّلت إلى فلسفة في الحياة والإدارة والتعليم والسياسة والثقافة بديلًا للهرمية القائمة، وانعكست في مختلف القطاعات، خاصّة في الإعلام الذي أصبح تفاعليًّا يتبادل فيه الأعضاء خدماتهم ويحصلون على مختلف احتياجاتهم.

ولا ينسى أن يؤكّد الأدوار التي تلعبها سيرورة العولمة في
تطوير الآليات التكنولوجية. وفي الوقت نفسه يشير إلى معضلة التكنولوجيا المتطوّرة المتمثلة بأنّ شبكة الإنترنت لم تصل إلى جميع الناس في العالم، الأمر الذي يزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويزيد من فجوة التكنولوجيا، ويحرم القطاعات المحرومة من الاستفادة القصوى من السوق المعرفية والمعلوماتية
العملاقة، مشيراً إلى أنّ تأثيرات ثورة الإنترنت ما زالت في بدايتها.

ويلفت النظر إلى أنّ الإنسان اليوم لم يعد يتميز بالتفكير؛ لأنّ الذكاء الصناعي والروبوت وبعض الحواسيب العملاقة تفوّقت على الذكاء البشري في الإحاطة ببعض أنواع المعرفة وتنظيمها وتحليلها.

وبذلك قد يفقد الإنسان مكانته بوصفه مرجعًا؛ لأنّ الأجهزة الرقمية تنفّذ بتسارع كبير، المزيد من مهمّات الإنسان التي كان يتميز بها مرجعًا للمعرفة. وبذلك يفقد خاصيّة احتكار توليد وإنتاج المعرفة. وهذا الأمر خلق معضلة فلسفية حول سؤال الأخلاق والعدل والقيم والصواب والخطأ والثقة، بعيدًا عن التنظيم الهرمي السلطوي والاجتماعي في ظلّ الشبكية، وسؤال الثقافة الإنسانية التي يفترض أن تتشكّل حول اقتصاد المعرفة، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية التي فرضتها سيرورة التطوّر التكنولوجي.

ويؤكد غرايبة على أهمية الإنترنت وتوفره في بناء مجتمع المستقبل، فيقول: "وربما تكون من الأهداف الاجتماعية التي يجب النضال لأجلها هي مشاعية الإنترنت بما هو خدمة عامة ومرفق أساسي مثل الطرق والمدارس والمستشفيات، إذ يفترض أن
تكون متاحة لكل فرد ومؤسسة فرصة الوصول إلى الشبكة بالقدر الذي يتاح له أن يسير على الشوارع والأرصفة ويرتاد الحدائق العامة، وتكون هذه المشاعية المفترض أن ترعاها الحكومات والبلديات والشركات في سياق مسؤوليتها الاجتماعية القاعدة
الأساسية للعمل والتشكل الاجتماعي والاقتصادي".

ويرى أن مشاعية الإنترنت هذه ستمهد لكثير من الخطوات التي ينتج عنها: "بناء المؤسسات الاجتماعية والمهنية والاقتصادية من خلال الشبكة لأجل التعليم والرعاية والتأثير في السياسات والأسواق، وتخفيض الهدر في الإنفاق والمشاركة في الأسواق المتاحة وطنيًّا وعالميًّا -فالعولمة التي أنتجتها الشبكية تتيح موارد جديدة وتستولي على موارد قائمة- وتقديم ما يمكن تقديمه من خلال الشبكة لأجل الحصول وعلى أفضل وجه ممكن على الخدمات الأساسية وبناء المعارف والمهارات، وتطوير الأسواق والجماعات والمدن والأحياء باتجاه ما يجب أن تكون
عليه".

ويؤكد على ضرورة الاستعداد لهذه المتغيرات التي تنتقل بالمجتمعات عمليًّا ومعرفيًّا من النظام الهرمي إلى النظام الشبكي، ذلك أن هذه التحولات تعمل لصالح الأكثر استعدادًا وتنظيمًا والأكثر مالًا وموارد، لكن هؤلاء الذين لم يستفيدوا من الفرص ولم يشاركوا فيها ليسوا بمنأى عن تحدياتها وخسائرها، فهي
ليست فقط لا تعمل لصالحهم، لكنها تُفقدهم مواردهم وأعمالهم وأسلوب حياتهم، وهكذا إذا كان عدم المشاركة في فرص العولمة والشبكية اختيارًا ممكنًا، فإن النجاة من شرورها ليست اختيارًا، ولذلك فإن الإبداع في العمل والحكم الرشيد مستمد من القدرة على ملاحظة وتقدير ما يحدث، وما يمكن عمله قبل وقوع الحدث أو
في أثناء حدوثه، ففي كثير من الأحيان تكون الحكم والدروس المستفادة بعد وقوع الأحداث والتحولات لا تفيد إلا قليلًا.

وإبراهيم غرايبة باحث أردني، وُلد عام 1962، ومارس البحثَ والكتابة منذ مطلع الثمانينات. قدَّم عددًا كبيرًا من الدراسات في مجالات الفكر الإسلامي، والفكر التنويري، والعمل الاجتماعي، والتنمية والإصلاح، والشأن الثقافي.

من إصدارته الفكرية: "قوة الإسلام"، "خريطة الحالة الإسلامية في الأردن"، "الخطاب الإسلامي والتحولات الحضارية والاجتماعية"، ومن أبحاثه المنشورة: "الدين والدولة في الأردن"، "جذور الثقافة الوطنية والتقدم"، "العولمة: شقاء أو حظ المجتمعات العربية"، "التأثير الاجتماعي للخصخصة في عمّان"، "الجهود والحركات الإصلاحية في العالم الإسلامي".

وهو عضو مؤسس في المنتدى الاجتماعي الأردني، والجمعية الأردنية لحقوق الإنسان، والمنتدى العالمي للوسطية، ويعمل باحثًا في الجامعة الأردنية ومشرفًا على برنامج الجامعة لتنمية المجتمع المحلي، وينشر مقالاته في عدد من الصحف.

التعليقات