عن الدولة الإسلامية والدولة الدينية (1 من 2)

عن الدولة الإسلامية والدولة الدينية (1 من 2)
عن الدولة الإسلامية والدولة الدينية (1 من 2)

عبد الغني سلامة

يمكن إطلاق وصف «إسلامي» على كثير من المسميات، كأن نقول: فن إسلامي، عمارة إسلامية، حزب إسلامي، دولة إسلامية. وكان أبو الحسن الأشعري (ت 324 هـ) أول من أطلق وصف «الإسلاميين» على الجماعات التي تشتغل في السياسة، في كتابه «مقالات الإسلاميين»، بهدف تمييز أولئك الذين يوظفون الدين في السياسة عن المسلمين المتدينين العاديين.
اليوم، كلمة «دولة إسلامية» تدل على أي دولة يدين أغلبية سكانها بالإسلام (57 دولة)، وحسب أدبيات الكثير من أحزاب الإسلام السياسي، فإن تلك الدول إسلامية بالاسم فقط، لأن نظامها لا يقوم على الإسلام «الصحيح». وهنا لا يعني أنها دول كافرة، كما لا يعني أن المسلم العادي الذي لا ينتمي لحزب إسلامي، ولا يطالب بدولة إسلامية أنه كافر.
بالمثل، لا يمكن اعتبار بريطانيا أو إسرائيل دول اشتراكية لأن حزب العمل هو من يشكل حكوماتها، أو اعتبار أي دولة تسمي نفسها «جمهورية كذا الديمقراطية» بأنها فعلاً تمثل الديمقراطية.
وأيضاً، فإن الدولة المدنية، قد تكون دولة دكتاتورية أو دينية، باعتبار أنها ليست محكومة بنظام عسكري بوليسي، إنما بمؤسسات مدنية وأهلية، بيد أن تلك المؤسسات قد تكون شكلاً موارباً لاستبداد السلطة، وذلك باتخاذها شكلاً مدنياً، وهي في جوهرها مؤسسات أمنية تماهي السلطة.   
الدولة لا يمكن أن تكون مسلمة، ولا كافرة. الدولة نظام إداري وسياسي (كيان معنوي غير عاقل)، ليس بوسعه أن يكون متديناً، أو غير متدين. ولكن يمكن وجود دولة دينية، ولدينا أمثلة عديدة من التاريخ، وهي تعني في علم الاجتماع «دولة ثيوقراطية»، أي دولة يحكمها رجال الدين (الكهنوت، أو الإكليروس)، بسلطة تستمد شرعيتها من الكتب المقدسة، وتفرض نفسها على الشعب باسم الرب. وفي الحالة الإسلامية سيحكمها خليفة يستمد سلطانه من الله، ويتقوى بالفقهاء، وبمظلة الشريعة.
عموماً، كلمة «الدولة» لم ترد في القرآن لا مصطلحاً ولا مفهوماً، ولا حتى في الأحاديث النبوية، ولم يرد في الكتاب ولا في السنة شكل محدد للنظام السياسي، ولم يرد أي تفصيل عن كيفية قيام الدولة ولا عن طريقة إدارتها. بيد أن الفقهاء الأولين ذكروا شروطاً معينة لدولة الخلافة، إلا أنهم لم يتفقوا على كيفية اختيار الحاكم، أو طريقة عزله، أو مدة ولايته، وحدود صلاحياته، ولا كيفية حسم الخلاف بين الخليفة وأهل الشورى.
الذين يستدلون على الآيات 45~47 من سورة المائدة، لإثبات وجوب إقامة دولة إسلامية، إنما ينزعونها عن سياقاتها، فالآيات تخاطب أهل الكتاب حصراً (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وهم كمن يقرأ «ويل للمصلين» ولا يكمل الآية.
الله سبحانه ذكر في القرآن قصص خمسة وعشرين نبياً، ولم يذكر أن نبياً منهم حاول إقامة دولة، والدولة التي أقامها النبي محمد في المدينة لا تشبه الدولة الحديثة، كما أنها تنفرد بخصوصية لا يمكن أن تتكرر، حيث جمع النبي بين السلطة الدينية والسياسية، بوصفه نبياً يتلقى الوحي مباشرة.
دولة الخلافة الراشدة أتت في ظرف تاريخي دقيق، وكانت مدتها قصيرة جداً، تخللتها حروب الردة، وفتن وقلاقل أمنية.. لذا يصعب القياس عليها، كما أنها قدمت نماذج متعددة ومتباينة في كيفية الإدارة، وفي طرق تعيين الخليفة. أما الدول التي أتت بعد ذلك (الأمويون، العباسيون.. وصولاً للعثمانيين)، فلم تكن أكثر من إمبراطوريات عائلية، تحكم بالوراثة، ولو طبقنا عليها معايير الفقهاء للدولة الإسلامية فلن نجد إلا المظهر الخارجي فقط، عدا الملاحظات السلبية والمظالم وأشكال القمع والفساد والصراع على السلطة التي لا عد لها ولا حصر.
حتى اليوم، لا يوجد اتفاق على مفهوم «الدولة الإسلامية» بين علماء الدين والفقهاء والمفكرين والحركات الإسلامية. فلا توجد في المراجع الشرعية نصوص صارمة وتفصيلية ودقيقة وشاملة لشكل ومحتوى هذه الدولة، وحتى الآن لم يُجمع الإسلاميون على وجوب إقامتها. ولو استعرضنا أدبيات الأحزاب الإسلامية التي تطالب بالخلافة لن نجد خطاباً واحداً متفقاً عليه في تعريف ماهية الدولة وتوصيفها، بل سنجد خطابات متباينة ومختلفة ومتناقضة، فالحركات الإصلاحية تحدثت عن الدولة المدنية الديمقراطية منطلقة من تطابق المصلحة العامة ومقاصد الشريعة، بينما الحركات الراديكالية ترفض فكرة الدولة المدنية والنظام الديمقراطي، كما سنجد اختلافات كبيرة في كيفية تحقيق الدولة، هل بالتدرج أم دفعة واحدة؟ وفي علاقاتها مع دول العالم (هل ستقوم على اعتبارها دار كفر، يتوجب الجهاد ضدها، أم اعتبارها جزءاً من المجتمع الإنساني، يجب التصالح معها؟).
بالإضافة للخلافات العميقة على مفهوم الهوية أو المرجعية الإسلامية، وفي النظرة لمواطني الدولة من غير المسلمين، أو المسلمين من أتباع الطوائف والمذاهب المختلفة، فهناك فجوة واضحة بين تلك المفاهيم وغيرها. لذا سنجد اختلافات شديدة بين تصور راشد الغنوشي للدولة الإسلامية، وبين تصور حزب التحرير.. وبين تصور أيمن الظواهري، وأبو محمد المقدسي.. وبين تصورات محمد عمارة والهضيبي، أو بين نموذج حزب العدالة والتنمية التركي ونماذج الأحزاب الإسلامية العربية.. وبين «الإخوان المسلمين» وحزب التحرير، أو حزب النور.. وبين تصور الأزهر والمرجعيات الشيعية.
فمثلاً، صدرت عن الأزهر وثيقة فقهية حدّدت صيغة الدولة الإسلامية بـ»الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة» التي تعتمد على دستور ترتضيه الأمة، واعتماد النظام الديمقراطي القائم على الانتخاب الحر، الذي هو الصيغة العصرية لتحقيق مبادئ الشورى، بما يضمنه من تعددية ومن تداول سلمي للسلطة». أغلب الظن سترفض الحركات الإسلامية الراديكالية هذا النص جملة وتفصيلاً.
فالانتخابات، والبرلمان، والتعددية، وتداول السلطة السلمي، هي من مكونات الديمقراطية، وهي مفاهيم حديثة، لم ترد في النصوص الشرعية الأولى. وبعض الإسلاميين يعتبرونها بضاعة غربية مشبوهة.
ما سبق عبارة عن وصف للخلافات في الساحة الإسلامية على شكل الدولة الإسلامية وطبيعتها، وهناك خلافات أشد على مبدأ وجوب إقامتها أصلاً. ومن يعترضون على إقامتها ليسوا فقط من خارج الدائرة الإسلامية التقليدية، بل هنالك مفكرون إسلاميون ومن تيارات فكرية مختلفة.
هل يمكن أن تكون الدولة الإسلامية مدنية وديمقراطية؟ وما هي واجبات الدولة أصلاً؟
موضوعنا القادم..

التعليقات