أميركا تكرس قانون الغاب

أميركا تكرس قانون الغاب
نبض الحياة- عمر حلمي الغول

العالم من اقصاه لأقصاه يعيش مرحلة رمادية غير مسبوقة في العصر الحديث، حيث يتم بشكل مدروس قلب المعايير القيمية والأخلاقية والقانونية رأسا على عقب، وتداس المعاهدات والمواثيق الدولية بنعال رئيس الدولة الأقوى في العالم، ويضرب عرض الحائط بالمنظومة العالمية ونواميسها، وضوابطها، وبات يسوق العالم نحو مستنقع الجريمة، وبناء عالم غريب عن المدنية وتعاليمها الديمقراطية، انقلاب حقيقي وشبه كامل على العالم، كل العالم القائم والمحتضر. وتسير البشرية بخطى حثيثة لولوج وتسيد قانون الغاب في ربوعها. 
دونالد ترامب، رئيس الإدارة الأميركية فاقد الأهلية والمسؤولية يدفع العالم دفعا إلى متاهات التصحر عبر استباحة القوانين والأعراف والمؤسسات الأممية، ويلقي بعصاه الغليظة على رأس المدعية العامة بالمحكمة الجنائية الدولية وزميلها فاكيسو موتشوتشوكو، رئيس قسم الإختصاص القضائي والتكامل والتعاون بالمحكمة، وعلى المنظومة القانونية الدولية كلها بالأمر التنفيذي الذي اصدره في حزيران / يونيو الماضي (2020)، ويقضي بفرض عقوبات على المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية التحقيق في "جرائم حرب محتملة" في أفغانستان على ايدي أطراف مختلفة، تشمل عسكريين ومسؤولي مخابرات أميركيين. والذي اصبح أمراً نافذا من يوم الأربعاء الماضي الموافق 2/9/2020 مع إعلان مايك بومبيو، وزير خارجية الإدارة في مؤتمره الصحفي: فرض عقوبات على "بنسودا" و"فاكيسو موتشوتشوكو" ووضعا على القائمة السوداء بموجبه، وتشمل الإجراءات ضدهما تجميد الأصول (المالية) وحظر السفر.
وكانت المحكمة الجنائية الدولية قررت عام 2017 التحقيق في إرتكاب "جرائم حرب محتملة" في أفغانستان على أميركيين وأفغان على حد سواء. مما اثار غضب وهياج وردود فعل الرئيس الأميركي وإدارته على المحكمة وقضاتها ورموزها. وزاد من حنق وتوتر الإدارة الإفنجليكانية المتصهينة عندما وافقت "بنسودا" في النظر بالقضايا، التي رفعتها القيادة الفلسطينية ضد جرائم الحرب الإسرائيلية على الشعب العربي الفلسطيني عموما، وعلى العديد من مجرمي الحرب الصهاينة، الذين إرتكبوا جرائم حرب ضد المواطنين الفلسطينيين، ورفضت الإذعان للضغوط الأميركية والإسرائيلية. كما وأصرت المدعية العامة للمحكمة، على ان فلسطين دولة وفق المعايير والقوانين والمواثيق الأممية، وعليه فإن القيادة الفلسطينية وحكومتها، هي صاحبة الولاية والصلاحية في الدفاع عن حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني، ولها كامل الحق برفع قضايا جرائم الحرب للمحكمة للنظر فيها، وإتخاذ ما يلزم بشأنها قضائيا. الأمر الذي دفع ترامب ومرؤوسيه لشن هجوم واسع ومتواصل على المحكمة الجنائية الدولية عموما وبنسودا خصوصا ومن يلتزم وينحاز للقانون الدولي.
وتعقيبا على إعلان وزير الخارجية الأميركي أعربت المحكمة الجنائية التابعة للأمم المتحدة، عن إدانتها الشديدة للخطوة الأميركية "غير المسبوقة" بفرض عقوبات تستهدف التأثير على مسار العدالة الدولية. وأوضح البيان أن الإجراءات المتخذة من قبل الإدارة الأميركية "تشكل محاولة إضافية للتدخل في إستقلال المحكمة القضائية، وإستقلال إدعائها العام، وللتدخل في عملها الضروري لمواجهة أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي وفقا لولاية المحكمة المنصوص عليها في نظام روما الدولي." واضاف "هذه الأفعال الإكراهية، الموجهة ضد منظمة قضائية دولية وموظفيها، غير مسبوقة، وهي إعتداءات خطيرة ضد المحكمة ونظام القانون الجنائي الدولي، الذي تشكله اتفاقية روما، وضد دولة القانون بشكل عام."
وما لم يقله البيان بشكل مباشر، ان تغول إدارة ترامب على القانون الدولي، يمثل خروجا على القانون والشرعية الدولية، واستباحة لاتفاقية روما الأممية، وهو ما يعني بشكل مباشر تدميرا مقصودا للمنظومة القانونية الدولية، وفتح ابواب العالم على مصاريعه امام قانون الغاب ليتسيد الموقف في العالم، ويمهد الطريق للكواسر الدولية في سحق وشطب القوانين والإتفاقات الأممية، او التعامل معها بانتقائية، ووفق مصالحها واجنداتها، واستهدافها للدول والشعوب الفقيرة والصغيرة، وبتعبير آخر، تعميم الفوضى غير البناءة، وتدشين عصر الإرهاب والحروب والعنصرية والجريمة المنظمة، وتحطيم المنظومة الأممية برمتها. لان استباحة القانون، ومعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان يعني مباشرة انتفاء القيم والأخلاق والحقوق والحرية والقضاء، وترك العالم لقمة سائغة للوحوش الآدمية لسحق مصالح وحقوق واستقلال وسيادة الشعوب والمؤسسات والهيئات والاتفاقات والمعاهدات الأممية. الأمر الذي يتطلب من كل دولة، ونخب البشرية المؤمنة بحقوق وحرية الإنسان تشكيل جبهة عالمية لصد ومواجهة انفلات إدارة ترامب من عقالها، عبر استهدافها البشرية كلها، وليس موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ولا الشعب العربي الفلسطيني فقط. التاريخ لن يرحم مطلقا زعيما أو نظاما سياسيا أو ايا من النخب السياسية والثقافية والقانونية والأكاديمية يتقاعس عن مواجهة التحدي الجديد، الذي تفرضه إدارة مجنونة، ومسكونة بالنرجسية والغطرسة.
[email protected]

التعليقات