دافيد فريدمان: سفير اللاهوت والاستعمار

دافيد فريدمان: سفير اللاهوت والاستعمار
دافيد فريدمان: سفير اللاهوت والاستعمار

د. أحمد رفيق عوض

عندما ينتهي المرء من قراءة مقال دافيد فريدمان سفير الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل حتى يتبادر إلى ذهنه أن فريدمان ذاته تحول إلى النبي حزقيال وهو يمشي في وادي العظام الجافة ثم يتنبأ عليها، فتقوم العظام اليابسة من موتها لتلتصق ببعضها البعض وتكتسي عصباً ولحماً فيزدحم الوادي بجيش عظيم يسوقه الرب إلى أرض إسرائيل.

هكذا يرى دافيد فريدمان نفسه في مقاله المنشور يوم أمس في جريدة جيروزاليم بوست رداً على مقال للدكتور بيتر بينارت وهو أستاذ جامعي ومؤلف وكاتب عمود بارز في صحيفة هآرتس، دعى فيه إلى دولة ثنائية القومية في إسرائيل. هذه الفكرة الليبرالية دفعت فريدمان إلى الجنون والتعصب إلى درجة أنه حرض على صحيفة نويورك تايمز التي نشرت مقال بينارت، ودعا إلى عدم اعطاء الأستاذ الجامعي المشار إليه أية فرصة لأن ترى "أفكاره السخيفة" أي فرصة لتنفس الهواء، وهو بذلك يخالف إحدى أهم القيم الأمريكية التي نشك أن فريدمان يؤمن بها.

ومرتدياً عباءة النبي حزقيال الذي عاش مرحلة السبي البابلي (حسب الرواية التوراتية)، فإن فريدمان يرفض فكرة الدولة ثنائية القومية ويعتبرها أكثر غدراً مما تبدو، وأنها تشبه تدمير المعبدين وأنها أكبر خطر أمني على إسرائيل من النهر إلى البحر.

وعلل السفير الذي يتحدث كحاخام يهودية الدولة وأحقيتها بأن هناك دول إسلامية ومسيحية في العالم، فلماذا يُستكثر على إسرائيل أن تكون يهودية، وينهي الرجل مقاله محاولاً اثبات مشروعية يهودية الدولة بالقول إن إسرائيل الآن هي تتويج لألفين سنة من الصلاة والتضحية اليهودية، وهي ترميم لشعب قديم، وهي ذلك الوادي من العظام الجافة التي يتجول فيها وحولها النبي حزقيال واعطاه الله القدرة على احياء ذلك الوادي ليتحول إلى جيش عظيم يعود إلى أرض إسرائيل.

بعد أن ضمن فريدمان تقديم مرافعته اللاهوتية التي تؤسس وتشرع لإسرائيل احتلالها وطردها لأهل فلسطين، فإنه ينحى باللائمة على الفلسطينيين الذين ضيعوا الفرص منذ 1947 وحتى الآن، وأن حل الدولتين فشل لأن الفلسطينيين رفضوه، ولأن الإرهابيين يقتلون الاسرائيليين، ولأن القيادة الفلسطينية تحرض على الكراهية ضد اليهود، ولأن هذه القيادة لا تحظى بشعبية وهي فاسدة وقاسية تجاه شعبها. ويكمل فريدمان بعد هذا الكم من الكذب والفبركة أن خطة ترامب خطة قابلة للتحقيق لإقامة حكم ذاتي فلسطيني داخل الجزء الأكبر من "يهودا والسامرة" "دون تعريض أمن إسرائيل للخطر" وأن ذلك بمثابة فرصة لاستقلال حقيقي للفلسطينيين "ووضع حد للأبد للكراهية والعنف اللذين اعاقا تقدم الفلسطينيين" كما أن خطة ترامب تقدم مساعدة مالية ضخمة على شكل استثمارات وليس صدقات لتحقيق التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني.

هذا أهم ما جاء في مقالة فريدمان، السفير لأقوى دولة في العالم، الذي من المفروض أن يمثل مصالح بلاده، ولكنه في مقالته هذه انما يفسر على هواه نصوصاً توراتية من أجل اعطاء اسرائيل ما تريد من أرض ودعمها فيما تفعل عليها، وفي مقالته هذه فهو سفيرٌ للاهوت مسلح واستعمار سافر، حيث إسرائيل هي دولة الرب أو دولة السماء لا دولة الأرض، وأن مجرد ميلادها هو تحقيق لمعجزة إلهية تشبه المعجزة التي جرت على يدي النبي حزقيال، وأن أية حلول أرضية أو ليبرالية أو تسوية لا تشمل إسرائيل الكبرى وأمنها وعودة يهودها إليها  هي حلول غادرة تشبه تدمير المعبدين. وهذا ليس كلام سفير على الاطلاق.

مقال فريدمان يعتقد أن أصل المشكلة هو شعور الكراهية ضد اليهود ورفض الفرص وسوء السلوك وفساد القيادة الفلسطينية، هكذا تماماً. يعني ليست المسألة مسألة قتل وتهجير ومصادرة وتدمير متواصل واقصاء مستمر منذ أكثر من سبعين عاماً. وأن الحركة الصهيونية -وهي حركة علمانية- ما كانت إلا نتاج حركة استعمارية اوسع واشمل.

لم يَرَ فريدمان ذلك ولا يريد أن يراه، لم يرد أن يعرف أن التوراة هي جزء من ثقافة المنطقة، وأن اليهود هي قبيلة أخرى من قبائل تشبهها في المنطقة، وأن قبائل اليهود تفاعلت مع القبائل الموجودة في المنطقة الجغرافية شرق المتوسط وتبادلوا معهم النساء والالهة والحروب والقصص والاساطير، وان الله اذ ميز قبيلة من هذه القبائل لحكمة من عنده، فنكثت العهد فأذاقها وبال ذلك وعذابه. لم يعرف فريدمان أن الإسلام يحرم كراهية البشر وظلمهم بما فيهم اليهود.

ولكن المسألة ليست اقتناع هذا السفير بالمنطق أو بالتاريخ. المسألة هنا أن المستعمر يصوغ رؤية له وللعالم من حوله، يجعل فيها نفسه مركزها وقائدها والمتحكم فيها. المستعمر والغازي عادة ما يؤلف رواية تخدم أهدافه وأغراضه ليبرر فيها القتل والمصادرة والاستعلاء.

ولهذا، فإن مقال السفير فريدمان تثبت للمرة الألف أن هذا الرجل يصوغ أقوال الله كما يريد، ويفسرها كما يريد ويطبقها بما يخدم أهدافه.

هذا يذكر بتنظيم داعش الذي يلوي أعناق النص القرآني من اجل أفعاله وممارساته، إن أقوال فريدمان وتصرفاته مسيئة ليست لنا فقط، فهو في اللحظة التي يهاجم فيها يهودياً آخر يدعو إلى ثنائية القومية، فإنه يسيء جداً إلى اليهود أيضاً، ذلك أن أحد أهم ملامح تاريخ الجماعات اليهودية في أوطانها هي العزلة القسرية والانعزال الطوعي بما يثير ذلك من مشاعر التوجس والحسد والكراهية والفوبيا المرضية. فلماذا لا تكون ثنائية القومية هي علاج تاريخي وسيكولوجي وسياسي للأزمة التاريخية.

أن لست مع هذه الفكرة لأسباب أخرى، ولكن ألا ترى أنك عندما ترفض هذه الفكرة بهذا الشكل العصابي، فإنك عملياً تقطع الطريق على أية تسوية منطقية وانسانية، فيما تدعو في مقالتك هذه إلى حل فيه كثير من الكراهية وكثير من الدماء. أنت تعطي إسرائيل -التي تدعي حبها- نصيحة سيئة.

التعليقات