تقديس الموت؟!

تقديس الموت؟!
تقديس الموت؟!

د. رياض عبدالكريم عواد 

أعتقد أن الثقافة العربية تقدس الموت أكثر من الحياة،

يتضح ذلك جليا من الاهتمام الشديد والمفاجئ بالميت وصفاته وانجازته، فجأة يصبح هذا الميت معروفا. يشيد به الكثيرون، بما فيه الذين لا يعرفونه في حياته، ويطالبون بتكريمه. طبعا غني عن القول أنه كان من الاجدر تكريمه في حياته ليرى بأم عينيه تقدير المجتمع الذي عانى وتعب من أجله.

ان واقع الحياة التي نعيشها في البيت والمدرسة والجامع والمؤسسة لم توفر لنا بعد، ثقافة حب الحياة وتقديس قيمتها، لذلك بقيت حياتنا مهدورة، مثل كرامتنا وحريتنا .. كان الحلاج يقول: اقتلوني يا ثقاتي فإن في موتي حياتي .. ومنذ ذلك الوقت ونحن نعتقد أن حياتنا تكمن في موتنا؟!. اطلب الموت توهبب لك الحياة، قد تصلح هذه العبارة في ظرف الحروب لكنها لا يمكن أن تكون قانونا للحياة، لانه لا يطلب الموت إلا كل فاقد لمتعة الحياة؟!

الفلسطيني بحكم قضيته الوطنية إنجبل على تقديس الموت/الشهادة، فكل شهيد بطل تزين صوره الجدران ويردد اسمه الأطفال والكبار، بغض النظر عما قدم؟! وهل هناك أعظم من الروح يمكن تقديمها للوطن؟!

لدرجة ان البعض يرفع شعار الموت اسمى أمانينا. منذ أيام كتب أحد نشطاء الفيسبوك على جدار صفحته "ساق الله على أيام قوافل الشهداء، وتمنى أن يكون واحدا منهم".

لم يقتصر فعل الفلسطيني تجاه تقديس الموت والشهادة على التغني والامنيات بل تعدى ذلك إلى أن يجهز كثير من الأشبال صور جميلة لهم، يدخروها عند الأصدقاء لتكون جاهزة للطباعة والنشر لحظة استشهادهم، المهم ان تتوفر الصورة، فالصورة هي البرهان؟! صورة يحرص صاحبها على تكون معبرة وحبذا لو كان يزين صدره ب كلاشينكوف، أما ان ظهرت الM16 في الصورة فهذا يعني مرتبة أعلى من الإثارة. طبعا هذا الشاب لم يسبق له أن تعامل مع السلاح قبل هذه الصورة.

بالتأكيد هناك تفسيرا منطقيا لعشق الشهادة والسلاح في ظروف شعب يناضل ضد احتلال استيطاني اجلائي. لكن الذي يثير التساؤل لماذا لم يتربى هؤلاء الأشبال على حب الحياة، لماذا لم يعي الشاب أن المحافظة على حياة المناضل ليعيش طويلا هي أحد أهم مهمات هذا المناضل، وأنه كلما طالت حياته زاد ايذائه لأعدائه.

في المسيرات إلى السلك، بادعاء العودة، اعتبر منظري هذه المسيرات ان استشهاد الشباب المجاني على السلك بديلا عن موتهم منتحرين هو أحد إنجازات هذه المسيرات. أنها نفس الثقافة التي تستبدل الموت بالموت، بعيدا عن جدوى هذا الموت، بعيدا عن قيمة أن يكون المناضل ندا لعدوه، يدميه قبل أن يغادر هذه الحياة، ويجبر العدو قبل الصديق على ضرب التحية امام جثمانه المسجى.

تتكرر أشكال تقديس الموت عند الفلسطيني بطرق مختلفة، استغلتها آلة بطش الاحتلال بقتل كثيرا من الفتية والنساء بدم بارد وبحجة وجود سكينة مطبخ بحوزتهم لمهاجمة الجنود المدججين بالسلاح والسترات الواقية ومكعبات الباطون والإسلاك الشائكة. هنا لا يحتاج منفذ هذه "العملية" لتجهيز صورة تخلده قبل استشهاده لان وسائل الإعلام جاهزة لبث صور الفتية والنساء المضرجة بالدماء، وبدلا أن تركز على جريمة الاحتلال ضد الأطفال والنساء، تخلق قصص البطولة والشجاعة والأقدام حول هذه الضحية المظلومة. طبعا تتلقف وسائل التواصل الاجتماعي هذا الحدث وهذه الصورة ليكون محركا ودافعا لموت مجاني قادم. فيما تهتم وسائل الإعلام الإسرائيلية في تقديم صورة الفلسطيني كارهابي يهاجم المدنيين؟!

اما الشكل الأكثر مأساوية لتقديس الموت كان في لجوء بعض الشباب إلى الانتحار كطريقة ووسيلة لمواجهة الظلم. فهل يمكن أن يسقط الظلم بالموت ودون مواصلة النضال الطويل والشاق، هل يقدم هذا الشكل من الموت حلولا للحياة. الغريب أن بعض هؤلاء الشباب اعتبر كل من ينتقد هذه الطريقة من الموت أنه يساهم في استمرار الظلم وفي التغطية على مسببيه وإعفاء فاعليه من المسؤولية؟! ولم يقدر هذا البعض خطورة هذه الظاهرة وخطورة استمرارها واستفحالها على الروح المعنوية للمجتمع وعلى مقدرته على رفض الظلم والمقدرة على مواصلة مواجهته ولو بأضعاف الإيمان.

ان الشهادة والشهداء هي احد أسلحة الشعوب المناضلة، والشهداء هم زيت المصباح الذي يضيء الطريق، وهم أحد المحركات الأساسية لاستمرار جذوة وشعلة النضال متوهجة، انهم الأكرم منا جميعا، هذه بديهية لايمكن مناقشتها أو تجريد الشعب الفلسطيني من هذا السلاح، لكن من الهام والأكثر جدارة أن تكون هذه الشهادة بعد عمر طويل وعطاء مجيد، يكون قد أتعب فيها المناضل عدوه وادمى مقلته.

ما قيل عن تقديس الشهادة ينطبق إلى حد كبير على تقديس الأسر والاعتقال، دون أن نغفل مقدرة العدو اللوجستية والاستخبارية، الا ان هناك استعجال واستهانة وعدم أخذ الاحتياطات اللازمة من قبل كثير من المناضلين من أجل الحفاظ على حياة طويلة خارج السجن ليؤدي الواجبات النضالية التي اختار هذه الطريق من أجل تحقيقها. تقول فالتسيا لانجر، المحامية المشهورة التي تنازلت عن جنسيتها الإسرائيلية، أن أكثر من 90% من الأسرى تم اعتقالهم قبل الشروع في تنفيذ أي من مهامهم الميدانية.

أن ثقافة تقديس الحياة والحفاظ على حياة المناضل ليواصل طريقه ويحقق بعض اهدافه ورفض الموت المجاني هي الثقافة التي تليق بالشعوب المناضلة.

اليوم 8 تموز/يوليو، الذكرى الثامنة والأربعين لاستشهاد غسان كنفاني الذي اوصانا "لا تموت قبل أن تكون ندا"، فهل حافظنا وصية الشهيد؟!

التعليقات