حلم الدولة بين التنسيق والمنسق والانفصال والضم

حلم الدولة بين التنسيق والمنسق والانفصال والضم
حلم الدولة بين التنسيق والمنسق والانفصال والضم

بقلم الباحث في الشئون السياسية/ د. رائد نجم

فرضت الاتفاقيات التي وقعت مع الاحتلال ادارة نوعين من التنسيق مارستهما السلطة الفلسطينية كطرف متعاقد في هذه الاتفاقيات. أول هذه الأنواع هو تنسيق مدني يتعلق بتسهيل حياة الجمهور في كافة المجالات الاقتصادية والصحية والتنقل والسفر والتشغيل وغيرها. وثبت أن قيام السلطة بهذا الدور يسهل وينظم هذه المهمة. وهذا النوع لا خلاف او اختلاف فلسطيني عليه وان كان يفترض ان يتقلص هذا النوع من التنسيق بعد الاتجاه نحو الاستقلال والتحرر من قيود الاحتلال لجهة خلق بدائل فلسطينية تتعلق بالاستيراد والتصدير، وادارة الموارد، وبناء القدرات الفلسطينية فاستمراره يعني استمرار التبعية الاقتصادية للاحتلال، واستمرار هيمنة الاحتلال على تحركات وتنقلات وتعاقدات الشعب الفلسطيني، وقدرته على خلق بدائل تشغيلية من خلال معابر مفتوحة، ومطار، وميناء، وطريق يربط الضفة الغربية بقطاع غزة يسمح بتبادل العمالة والخبرات والتنقل والسفر. ولكن السلوك العدواني لدولة الاحتلال حال دون تحقيق السلام وتقليص هذا النوع لحده الأدنى بين دولتين جارتين. وتعمد الاحتلال افقاد الشعب الفلسطيني أي قدرة على الاستقلال والحرية وبناء القدرات والانفتاح على العالم وخلق البدائل من خلال التدمير الممنهج للمؤسسات، والاقتصاد، وابقاء الشعب الفلسطيني في حالة من الاعتمادية على الاحتلال، واقتصاده، وتصاريحه، وشاحنات بضائعه، وسيطرته على المعابر الفلسطينية.

ثاني أنواع التنسيق هو التنسيق الأمني محل الخلاف والاختلاف الفلسطيني. ويتطلب هذا النوع من السلطة كطرف متعاقد ان تبذل جهدها لحفظ الامن ومنع أي محاولات للإخلال بالأمن لتثبت بانها طرف قادر على الوفاء بالتزاماته في الاتفاقيات تجاه الطرف الاخر. وترتب على ذلك نشاط أمني ووظيفة أمنية نفذتها السلطة الفلسطينية بشكل علني والتزمت بها. وكان تفسير السلطة ان الهجمات يمكن ان تعطل مسار السلام ولن تكون بديلاً له، بل يمكن ان تستخدم كذريعة من قبل الاحتلال للتملص من استحقاقات السلام التي كانت مجدولة.

كما رأت السلطة ان اختلاف البرامج السياسية لا يجوز ان يعطي قرار السلم والحرب لكل طرف او جماعة او افراد ليهدموا ما بني من انجازات مقابل قتل مستوطن هنا او جندي هناك، خاصة مع وجود اختلافات اقليمية امتدت للساحة الفلسطينية، واستخدمتها كورقة في لعبة التنافس الاقليمي وشد الحبال مع الادارة الامريكية. وكانت السلطة تدعو باستمرار لحوارات وطنية لمعالجة هذا الامر فالحرية والاستقلال والبناء وحجز مقعد في المجتمع الدولي تتطلب اداء سياسي رصين ومدروس لا يجوز مقايضته بهجمة ناجحة يقتل فيها عشرة من عناصر الغزاة المحتلين. كما ان اللجوء لخيار الكفاح المسلح بعد بناء سلطة ومؤسسات هو دعوة لهدم ما بني وعودة للصورة الاولى من النضال، التي كانت وظيفتها اجبار الاحتلال على الاقرار بحقوقنا والبدء في ردها برعاية دولية. علاوة على معيقات استراتيجية  تتعلق بسيطرة وتحكم الاحتلال في مدن الضفة وغياب العمق العربي الداعم لخيار الكفاح المسلح.

جاءت الدعوة الفلسطينية بضرورة تغيير وظيفة السلطة الامنية والخدمية لوقف التنسيقين بنوعيهما، او تقليص النوع الاول للحد الادنى، ووقف الثاني تماماً ليتحمل الاحتلال الذي يعطل تنفيذ الاتفاقيات وقرارات الشرعية الدولية ويمتنع عن رد الحقوق الفلسطينية مسئوليته كقوة احتلال تحتل اراضي دولة فلسطين في انتهاك واضح للقانون الدولي.

صاحب ذلك بروز ظاهرتين جديدتين من التنسيق سبقتا قرار السلطة وقف التنسيق، أولهما هو تنسيق مدني تمثل في تنسيق توصيل الاموال الى حاكم الامر الواقع في قطاع غزة في اطار ما يعرف بالتفاهمات، وفي المقابل نقل كشوف بأسماء من سيتلقى هذه الاموال للجهات الاسرائيلية للموافقة عليها وبصمات اصبعهم. وتم هذا النوع من التنسيق بمعزل عن السلطة الفلسطينية ومؤسساتها ودون أي قنوات قانونية وخارج الاتفاقيات الموقعة. وصاحب هذا النوع تنسيق الخدمات مع الاحتلال للسكان في قطاع غزة كإدخال البضائع، واعمال شبكة الكهرباء ومحطة التوليد والتحويلات الطبية. أما النوع الثاني من التنسيق فهو تنسيق أمني تم تسميته بالضبط الميداني، ووظيفته الواضحة هي منع أي هجمات ضد الاحتلال، أي تحييد المقاومة وأدواتها من العلاقة مع الاحتلال والحفاظ على الامن، وفي مقابل هذا النوع تقدم الاموال عبر الاحتلال والخدمات للسكان في قطاع غزة.

مثل نوعا التنسيق الجديد انتهاكاً فلسطينياً للاتفاقيات، وتسببا في تآكل مكانة السلطة بشكل مستمر، وعززا رواية الاحتلال بان السلطة لا تمثل كل الشعب الفلسطيني، وانها غير قادرة على ممارسة السيادة على اقليمها وشعبها، وعاجزة عن الوفاء بتعاقداتها، ما اضعف من مطالباتها بتنفيذ الاتفاقات، وألحق الضرر بالقضية الفلسطينية، حيث قدمتا للعالم دليل على ضعف الصفة التمثيلية للسلطة، وعدم القدرة على فرض السيادة والوفاء بالتزامها كطرف متعاقد في أي اتفاق، وهبطت بالقضية الفلسطينية من مكانتها كقضية حقوق سياسية وحرية واستقلال الى قضية انسانية مطلبية تتعلق بتلبية الحقوق الطبيعية وتصريف شئون الحياة.

ظهر مؤخراً نوع مستجد من التنسيق تمثل في تعزيز الاحتلال لمكانة وتأثير الادارة المدنية للاحتلال، واضعاف متعمد للسلطة الفلسطينية كممثل لكل الفلسطينيين ومدافع عن حقوقهم، ومطالب برد الحقوق السياسية من حرية واستقلال ودولة وسيادة وتقرير مصير. أراد الاحتلال اختزال حقوق الشعب الفلسطيني في قضايا مطلبية حياتية لا قضايا حقوق سياسية، ففتح المجال للتنسيق المباشر بين السكان والاحتلال وعينه على الاجهاز على ما تبقى من سلطة وهدمها لأنه لا يريد الظهور أمام المجتمع الدولي باعتباره الطرف الذي لا يحترم الاتفاقيات الموقعة برعاية دولية، وبأنه الطرف الذي يقوم بدفن أي فرصة للسلام، ويقوض السلطة شريكه الفلسطيني في تحقيق السلام ويتجاوزها كجهة مطالبة بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، خاصة بعد معارضتها لمخططات الضم وصفقة القرن.

دارت الدائرة وعمل الاحتلال كذلك على تجاوز حاكم الامر الواقع في قطاع غزة الذي كان سباقاً في تجاوز السلطة الفلسطينية كسلطة تمثيلية جامعة وموحدة للشعب امام الاحتلال، واظهرنا كجماعات مصالح تسعى كل منها لتحقيق عوائد مطلبية تخاطب احتياجاتها الخاصة. وسعى الاحتلال لتجاوز الاتفاقيات، وخلق واقع جديد من خلال مخاطبة احتياجات الناس مباشرة عبر توفير تصاريح عمل ليتحكم مباشرة بالسكان فمن يتحكم بغذاء الشعوب يتحكم بها. وصاحب ذلك ظهور اصوات تنادي بروابط قرى جديدة ودفن حلم الدولة والاستقلال.

جاءت رؤية الاحتلال في ظل صفقة القرن وسعيه لضم اراضي الدولة الفلسطينية لتفسر صراحة ما يحدث، فالاحتلال يريد صراحة حل "الامارات الفلسطينية" بإنشاء سبع امارات منفصلة في الضفة وغزة ووأد الدولة الفلسطينية. واعتبر الاحتلال أن قطاع غزة اصبح امارة جاهزة منذ ثلاثة عشر عاماً، وهو الأمر الذي ينسجم مع رؤية الاحتلال التي تقوض حلم الشعب الفلسطيني بالاستقلال والدولة. وهكذا فان تنسيق قطاع غزة المباشر مع الاحتلال، ثم استمرار انفصاله يوفر اسناد مباشر لحل الامارات السبع والذي يعني صراحة التسليم بضم القدس، وضم 30% من اراضي الضفة الغربية لدولة الاحتلال. فالاحتلال يطمح الى اضعاف السلطة واقامة امارات اخرى في الضفة على غرار امارة غزة في اطار صفقة القرن، وتنفيذ خطة الضم عبر خلق مسارات تنسيق متعددة للإمارات والافراد عبر الادارة المدنية للاحتلال، وتلبية احتياجات الامارات المطلبية والحياتية كما يحدث مع قطاع غزة ليتسنى له ضم اراضي الضفة بهدوء، وقتل حلم الدولة والاستقلال لتضيع تضحيات 72 عام، وتضيع مواردنا ومناطقنا الاقتصادية وقدرتنا على الاستقلال وسيادتنا ومعابرنا مقابل نقل اموال وتسهيلات حياتية وتصاريح يتحكم الاحتلال في استمرارها ووقفها متى شاء.

التعليقات