العبادات في الشكل والجوهر زمن "كورونا"

العبادات في الشكل والجوهر زمن "كورونا"
العبادات في الشكل والجوهر زمن «كورونا»
مهند عبد الحميد

التزمت المؤسسات الدينية الرسمية المتنوعة في كل بلدان العالم بقرارات الحجر البيتي، ودعت الى ممارسة طقوس العبادة داخل المنازل وبمستوى فردي. في هذا السياق جرى تعليق أداء العمرة للمسلمين ومنعت الصلاة الجماعية في الحرم المكي وفي المسجد الأقصى، ومن المرجح تعليق أداء فريضة الحج إلى مكة في هذا العام. وارتأت المرجعيات الإسلامية صوم شهر رمضان مع استمرار أداء الصلوات بما في ذلك صلاة التراويح داخل البيوت. وكان هناك اجتهاد بتعليق الصوم لتفادي جفاف الحلق الذي يشكل بيئة مواتية لفيروس كورنا، لكن كل المرجعيات الإسلامية اعتبرت انه لا يوجد دليل علمي على ربط الصوم بالإصابة. وأكدت على أداء فريضة الصوم. واحتفل البابا فرانسيس بالقداس وحيداً، كما ألغى أساقفة من بلدان عديدة المؤتمرات والفعاليات الدينية التي كانت مقررة قبل الجائحة. وألغى الحاخامات الاحتفال بعيد المساخر اليهودي وعلقوا الصلوات الجماعية في الكنس اليهودية. وألغي مهرجان هولي الهندوسي.

لم يكن سهلاً اتخاذ مثل هذه القرارات من قبل المرجعيات الدينية، بمعزل عن دعم وإسناد الحكومات التي بادرت باتخاذ سلسلة من إجراءات الوقاية من فيروس كورونا، والتي كان أهمها التباعد الاجتماعي. ورغم ان المستوى الديني المركزي تناغم مع المستوى السياسي باستثناءات قليلة، إلا أن بعض الاتجاهات من مختلف الأديان حاولت التمرد على القرارات، حين مارست الاختلاط باستمرار الصلاة والاحتفال بالأعياد غير عابئة بنشر الفيروس. اعتقد المتمردون بأن الفيروس يستثني المؤمنين من ديانتهم، ويصيب فقط الديانات الأخرى وغير المؤمنين. ورأوا في وقف الصلوات في أماكن العبادة يعتبر من الكبائر التي لا تغتفر، لذا وجب التمرد عليها. وفعلاً شهد العالم أفعال تمرد في كوريا الجنوبية، التي لم تلتزم الطائفة المسيحية فيها بقرارات التباعد الحكومية، وقد ساهم المتزمتون الذين واصلوا طقوسهم الجماعية في نشر الاصابة بفيروس كورونا. وفي ايران تواطأت السلطة الثيوقراطية ( الدينية السياسية) مع رجال الدين في ممارسة الطقوس الجماعية في قُم التي تحولت بفعل الاختلاط الكبير الى مركز للوباء. ولم يلتزم العراقيون من الطائفة الشيعية بالحجر وتجمهروا واختلطوا مع ايرانيين جاؤوا لزيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وفي مدينة الصدر، ما أدى الى ازدياد الاصابات التي كان مصدرها ايران. وأقيم في كنيسة لويزيانا وغيرها من الكنائس صلوات جماعية حضرها آلاف المصلين، مخالفين بذلك قرارات رؤساء الولايات التي تحظر اجتماع أكثر من خمسين شخصاً. ودعا رجال دين المواطنين للذهاب الى الكنائس للحصول على البركة، ورفضوا قرار اغلاق الكنائس في الوقت الذي تفتح المتاجر. هؤلاء تسببوا في نشر الفيروس وزيادة حجم الإصابات. وبالمثل تجاهل رجال دين باكستانيون قرار الحجر الحكومي، فعقدوا مؤتمراً حضره 3 آلاف عضو من جماعة الدعوة الإسلامية داخل باكستان ودول أخرى، وقد ساهم هؤلاء في نشر الوباء، وكان من بينهم ثلاثة فلسطينيين، اثنان عادا مصابين بالوباء الى قطاع غزة، وواحد عاد مصاباً بالوباء الى سلفيت، وقد نقلوا الفيروس لمواطنين فلسطينيين في المنطقتين. وفي موقف غريب دعا الرئيس التنزاني جون ماغوفولي مواطنيه لاستمرار الذهاب الى الكنائس والمساجد. مستبعداً إصابة المسيحيين واصفاً كورونا بأنه شيطان سيحترق بمشيئة يسوع». ولا يختلف المتزمتون اليهود عن أمثالهم من المتزمتين في الديانات الأخرى. حين رفضوا إجراءات وزارة الصحة الإسرائيلية لتفادي الإصابة بفيروس كورونا. أحياء المتزمتين اليهود في القدس وبني براك قرب تل أبيب وعدد من المستوطنات شهدت تمرداً واشتباكات مع الشرطة الإسرائيلية، ولم يلتزم المتزمتون اليهود الا بفرض سيطرة وحدات من الأمن والجيش ومنع التجول داخلها او مغادرتها. وكانت اعلى نسبة من الإصابات في صفوفهم وساهموا في نشر الوباء بشكل ملحوظ. وحدث تمرد في فلسطين ايضا عندما واصل عدد من أئمة المساجد فتحها وإقامة الصلاة الجماعية في مواجهة قرارات الحكومة التي حظرت التجمع داخل المساجد، ولم يتوقف هؤلاء عن التمرد الا بعد اعتقال الشرطة الفلسطينية كل مخالف للحظر، كما لم تلتزم سلطة حماس بالحظر الا بالتوقف عن الدراسة في المدارس، وبقي الاختلاط الذي يبرر بقلة الإصابات. واستمر فريق من المتزمتين بإقامة صلوات جماعية في البيوت والحقول بعيداً عن أنظار لجان الطوارئ. قال لي صديق من قلقيلية انهم شاهدوا صلاة جماعية في ارض بعيدة عن المدينة، وحاولوا نقاشهم بخطورة التجمع والاختلاط، كان ردهم بأن الله هو الحامي. والبعض تحدث عن حرية ممارسة العبادة وان السلطة تمنعهم من ممارسة العبادة في بيوت الله وتنتهك هذا الحق المقدس. كما نرى يتوفر قوى دينية تتبنى اجتهاداً متشدداً يتعارض مع تفسير علماء المؤسسات الدينية. والذي يتلخص بأن الدين لا يدعو الى جلب الضرر بالمسلمين ولغيرهم. وجلب الضرر إذا ما جرت محاكمته علمياً فان الحماية التي يتحدثون عنها لا تصمد أمام تفسير الطب والأطباء كجهة اختصاص في مجال الأمراض والأوبئة، ولا يصمد أيضا امام التجربة العينية لانتشار كورونا. ان منطق المتشددين لا يصمد أمام الحجج العلمية والطبية، والاهم لا يصمد أمام الحجة الأخلاقية، فمن يقبل تعريض حياة العشرات والمئات من المواطنين وبخاصة كبار السن والأطفال لخطر الموت وللعذاب؟ كان الأفضل التزام الجميع بالتراضي لمصلحة الكل وبدون إجراءات صارمة. العمل بعناد اضطر الحكومة الأردنية الى منع التجول أيام الجمعة كي لا يتجمهر المتشددون أمام المساجد ليقيموا الصلاة مهددين بانتقال الفيروس الى أعداد كبيرة من إخوانهم وأبنائهم ومواطنيهم. فالخطر الداهم لا يسمح بانتظار مفاعيل التوعية لتغيير سلوك أناس يصمون آذانهم خارج إطار الحقيقة المطلقة التي يدّعون امتلاكها، وهذا يفسر الإجراءات الصارمة للتغلب على المرض لكنها تحتاج الى رقابة كي لا تمس الحريات خارج إطار المرض الذي استدعى اتخاذها لفترة مؤقتة.

السؤال الذي يطرح نفسه ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك، شهر العبادة كما هو متعارف عليه. هل ينضبط المتشددون وأنصارهم للإجراءات التي تحول دون إقامة الصلاة في المسجد الأقصى والمساجد بشكل عام، ودون إقامة صلاة التراويح يومياً، والأخذ بمنظومة التقاليد الأخرى كموائد الرحمن والإفطارات الجماعية والزيارات المتبادلة؟ ان هدف التخلص من الوباء كمصلحة عليا لعموم الشعب، بالحفاظ على الصحة العامة في إطار من التعاقد والتعاضد الاجتماعي الرائع، وتكريس وحدة الشعب الوطنية توطئه للخلاص من الاحتلال. ان المشاركة في معركة هزيمة «كورونا» لا تنفصل عن المشاركة في معركة هزيمة الاحتلال. من لا يقاوم «كورونا» من الصعب ان يقاوم الاحتلال. إن تغيير السلوك الاجتماعي بالحفاظ على الإيجاب والتخلص من السلب، والتغلب على نمط العادات والتقاليد الاستهلاكية والمظهرية لا شك انه تحد كبير، والفوز به سيعزز مناعة المجتمع ضد فيروس كورونا وفيروس الاحتلال وفيروس الفساد.

[email protected] 

التعليقات