رئيسُ "الموساد" أشرفَ بنفسه على اغتيالِ الشقاقي بباخرةٍ كانت قربَ جزيرة مالطا

رئيسُ "الموساد" أشرفَ بنفسه على اغتيالِ الشقاقي بباخرةٍ كانت قربَ جزيرة مالطا
دنيا الوطن  - عوض أبو دقة
في أمسيةٍ كانت بشهر أكتوبر عام 1995، اجتمع قادة الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، في "منزل آمن"، بشارع "بينسكر"، وسط مدينة "تل أبيب"، لمناقشة عملية اغتيال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين فتحي الشقاقي؛ حيث كان جهاز "الموساد" يضعه على رأس قائمة المطلوبين، عقب تنفيذ الحركة عملية تفجير مركبة في بيت ليد، بتاريخ 22 يناير من ذات العام، قتل خلالها 24 جندياً إسرائيلياً، وأصيب العشرات.

وكان جهاز "الموساد" قد وضع خطةً في أوائل صيف 1995 لنسف شقة الشقاقي الواقعة في الضاحية الغربية لمدينة دمشق بقنبلة حارقة، إلا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها اسحق رابين، رفض المصادقة على التنفيذ، بناءً على توصية من رئيس جهاز المخابرات العسكرية الإسرائيلية يوري ساجي – "الماسيترو" الفعلي للاستخبارات الإسرائيلية بأكملها -.

واصل جهاز "الموساد" برئاسة شابتاي شافيت، تعقب الشقاقي، حيث كلّف عميلاً في دمشق بمراقبة شقته إلكترونياً، وكان بحوزة ذلك العميل أجهزة أمريكية على درجة من التعقيد، تكفي لاختراق قواطع الدوائر الدفاعية في نظام الاتصالات الروسي الصنع المركب في شقة الشقاقي. وأرسلت تفاصيل زيارة الشقاقي لكل من ليبيا ومالطا إلى "تل أبيب".

في تلك الأمسية من شهر أكتوبر 1995 شقّ رؤساء أقوى ثلاثة أجهزة مخابرات إسرائيلية (شابتاي شافيت، يوري ساجي، ودوران تامير) طريقهم عبر الزحام تجاه شارع "بينسكر"، وبجعبة كلٍ منهم ما يؤيد القضاء على "العدو المبين" لإسرائيل. يومها قال يوري ساجي :" نحن نتنافس فيما بيننا، ولكن هذه المنافسة جيدة طالما كنا نسعى إلى تحقيق نفس الهدف".

ظلّ الجنرالات الثلاثة جالسين حول الطاولة في غرفة المعيشة لمدة ساعتين يراجعون خطة اغتيال الشقاقي، التي سيُستخدم فيها نفس التكتيكات التي استخدمت قبل خمس سنوات، لاغتيال العالم الكندي جيرالد بول، الخبير في إنتاج مدافع إطلاق الصواريخ الباليستية، الذي اعتبرته إسرائيل إرهابياً، كونه تعامل وتعاون مع الصين والنظام العراقي.

وفي تاريخ 24 أكتوبر 1995، غادر "تل أبيب" شابان في أواخر العشرينيات من العمر، أُطلق على أحدهما الاسم الحركي "جيل"، وعلى الآخر اسم "ران"، وركب كلٌ منهما طائرة مختلفة، حيث توجه "ران" إلى أثينا، وتوجه "جيل" إلى روما. 

وبمجرد وصول كل منهما إلى المطار، استلما جوازي سفر بريطانييْن من عميل خارج "الموساد"، ثم أقلعا إلى مالطا في رحلتين جويتين وصلت بعد العصر، وتوجها إلى فندق "ديبلومات" المطل على ميناء "فاليتا". 

في ذلك المساء استلم "ران" دراجة بخارية، وأبلغ موظفي الفندق، بأنه سيستخدمها في القيام بجولة في الجزيرة. ولا يتذكر أي ممن كانوا في الفندق حدوث أي اتصال بين الشابين، فقد قضى كلٌ منهما معظم وقته في غرفته، وعندما لاحظ أحد الخدم أن حقيبة "جيل" السمسونايت كانت ثقيلة، غمز "جيل" بعينه وقال إنها مملوءة بقضبان من الذهب.

في تلك الأمسية تلقت الموانئ المالطية رسالة لاسلكية من باخرة شحن كانت قد غادرت ميناء حيفا في اليوم السابق في طريقها إلى إيطاليا. أشارت الرسالة إلى وجود عطل فني في محركات الباخرة، وطلبت السماح لها بالبقاء على مقربة من الجزيرة إلى أن يتم إصلاح العطل. 

وكان على ظهر السفينة رئيس جهاز "الموساد" شابتاي شافيت، ومجموعة من أخصائيي الاتصالات التابعين للجهاز، الذي أقاموا اتصالاً لاسلكياً مع "جيل"، حيث كانت محتويات حقيبته تضم جهازاً لاسلكياً صغيراً، ولكنه قوي.

وكانت أقفال الحقيبة تفتح عكس اتجاه عقاب الساعة، ليتم إبطال فتائل التفجير المثبتة في عبوتين مثبتتين في غطائها. وقد صممت الحقيبة هكذا لتنفجر في وجه أي شخص يفتحها بعد أن يدير المفتاح في اتجاه عقارب الساعة. 

كان هوائي اللاسلكي المعين الشكل عبارة عن كابل من الألياف البصرية طوله ربع ميل، ملفوف بإحكام على شكل أسطوانة قطرها ست بوصات، تم تثبيتها بفواصل متصلة بأربعة أقطاب ثنائية ملحومة داخل ركن حقيبة السمسونايت. وتلقى "جيل" أثناء الليل عدة رسائل لاسلكية من الباخرة.

كان الشقاقي قد وصل في وقتٍ مبكر ذلك اليوم على متن عبارة تعمل بين طرابلس الغرب و"فاليتا" ومعه بعض رجال الأمن الليبيين الذين لم يغادروا السفينة، لأن مهمتهم تنتهي بنزول الشقاقي إلى الميناء بمفرده. وقبل ذلك كان الشقاقي قد غيّر شكله، وقدّم نفسه إلى ضباط إدارة الجوازات المالطية باسم إبراهيم درويش، وقدّم لهم جواز سفره الليبي. وبعد أن سجل اسمه في فندق "ديبلومات" قضى ساعات قليلة على المقاهي المطلة على البحر يحتسي فناجين لا تنتهي من القهوة وهو يتناول بعض الحلوى العربية اللذيذة، كما أجرى عدة مكالمات هاتفية.

في اليوم التالي، وبينما كان الشقاقي يتمشى على الساحل، اقتربت منه دراجة بخارية يركبها اثنان، وخفضت سرعتها عندما صارت بموازاته، أطلق أحد الشبان ست طلقات مباشرةً على رأس زعيم الجهاد. 

بعد ذلك بساعة أبحر زورق صيد من ميناء "فاليتا"، وألقى مرساه جانب الباخرة القادمة من حيفا. وبعد قليل اتصل قبطان الباخرة بسلطات الميناء، وأبلغها أنه تم إصلاح مؤقت للعطل الذي أصاب المحرك، وأن الباخرة ستعود أدراجها إلى حيفا لاستكمال إصلاحها.

في "تل أبيب" عندما طُلب من رابين التعليق على اغتيال الشقاقي أجاب قائلاً :" لست حزيناً بكل تأكيد", وبعد ذلك بأيام قليلة، وبالتحديد في 4 نوفمبر 1995 اغتيل رابين في احتفال أقيم بـ"تل أبيب" على مقربة من "المنزل الآمن" الذي شهد التحضير وإصدار أمره باغتيال الشقاقي.

التعليقات