يــومــيــات الحــجـــر المـنزلـــي

يــومــيــات الحــجـــر المـنزلـــي
يــومــيــات الحــجـــر المـنزلـــي

عبد الغني سلامة

ها نحن ندخل «طوعياً» الشهر الثاني في الحجر المنزلي، وهو إجراء وقائي ضروري لإبعاد خطر الـ»كورونا»؛ نزجي الساعات والأيام، كمن يدفع عربة ثقيلة، لا يعرف متى سيفرغها، وإلى أين سيصل.. لكلٍ منا طريقته في قتل الوقت.. بالنسبة لي، أرى نصائح متخصصي التنمية البشرية مرهقة، ومملة، ومثالية أكثر من اللازم، فمن حقي، أن أمضي الوقت بالطريقة التي تريحني.. القراءة خيار جيد، لكنها تغدو متعبة حين تكون مفروضة، بالنسبة للأفلام، شاهدنا أكثرها، وبقي الكثير من الليل.. مارستُ الرياضة أسبوعا كاملا ثم توقفت.. أشغال البيت لا تنتهي، نتعاون عليها، ومع ذلك في آخر السهرة تتكوم بعض الأطباق في انتظار من يغسلها في اليوم التالي.. عقّمنا كل ركن في المنزل، وأعدنا ترتيب الأثاث، وتخلصنا من حمولة ثلاثة أكياس من أشياء لم تعد ذات قيمة..

صباحاً، أشربُ القهوة مع خلود في الحديقة، تُنعشنا نسمات الصبح العليلة، نراقب العصافير وهي تتقافز فرحة بهذه الفسحة، وبهذا الصمت الجليل، بالإضافة للبلابل وعصفور الشمس الفلسطيني، بدأنا نرى أنواعا جديدة لطيور مختلفة بألوان زاهية.. نتأمل المدى البعيد، ونتخيل شكل المستقبل، على أنغام «سكر محلي محطوط على كريمة».

في العصارى نسقي أشتالنا، ونتفقد مزروعاتنا القليلة.. نفكر بزراعة بعض الخضراوات، لتكون عونا لنا في رمضان القادم.

لدينا حديقة صغيرة، وساحة خلفية، وإطلالة على أفق مفتوح.. وهذا ما يخفف علينا وطأة الحجر.. لذا أتعاطف مع أصحاب الشقق المعلقة في الهواء، خاصة من لا يمتلكون «بلكونة»، وكذلك سكان المخيمات، ربما الوضع في القرى أفضل، فأغلب سكانها يمتلكون بيوتا مستقلة، وحواكير فسيحة.. ومع كل ذلك، لا أحد يحبذ سجنه في بيته.

ننظر إلى ماضينا القريب جداً، بشيء من الحنين (نوستالوجيا)، حين كنا نخرج من بيوتنا بكل سهولة، ونصافح بعضنا بحرارة، ونقتحم الازدحامات دون وجل.. هذا كله صار من الماضي، يخنقنا هذا الحنين، إذ يشعرنا أحيانا بأننا في الجحيم، ولكن، هل كنا قبل ذلك في النعيم؟ هل كانت أنهار الجنة تجري تحت أرجلنا ولم نكن نراها؟ نتذكر القضايا التي كانت تشغلنا: اغتيال «قاسم سليماني»، مقتل الفتاة «إسراء غريب»، .. مقتل عامل سوري على يد زوج «نانسي عجرم».. وتلك أيضا قضية أشغلت الناس كثيراً..

نتذكر اندلاع الحرائق في غابات الأمازون في الصيف الماضي، ثم اندلاعها مجدداً في أقصى جنوب شرقي الأرض (أستراليا).. انشغلنا في تلك الكوارث البيئية، لكننا كنا نتفرج عليها بإحساس البعيد، الذي لن يمسه خطرها مباشرة..

وقبل ذلك انشغلنا في قضايا كونية، بدت لنا مهمة: ثقب الأوزون، التغير المناخي، التصحر.. لكن خوفنا كان منصبا على الأجيال التي ستأتي لاحقا.. كان أكثر ما يقلقنا ما نقرأه عن المسرطنات، والأغذية غير الصحية، والوجبات السريعة، ونسب الكوليسترول، ومخاطر الوزن الزائد.. كل تلك القضايا تبدو لنا الآن «لا شيء»، حتى أننا لم نعد نذكرها.. فلا نذكر إلا ما يحيط بنا مباشرة، ما يقترب منا حتى المسافة صفر.. «الكورونا».. نسمع هذه الكلمة ألفي مرة يومياً.

اليوم، صارت فكرة الخروج من البيت مخيفة، في المرات القليلة التي خرجت فيها للتسوق، كان ينتابني شعور غامض بالقلق، ويغمرني الحزن على منظر المدينة، وهي شبه خاوية، أعود مسرعا، لأجد «خلود» تنتظرني بقلق مشابه.. وخلود متشددة في معايير النظافة وإجراءات التعقيم، تطلب مني وضع ملابسي في الغسالة، وترك الحذاء خارجا، ثم ترشني بالمعقمات.. فأنصاع لتعليماتها.. صرتُ أرسل أحد أبنائي بدلا مني، مرة كل ثلاثة أيام.

تواظب «خلود» على عملها الوظيفي من البيت، وبعد الظهيرة تتفرغ لإدارة شؤوننا.. «يزن» يواصل عمله من البيت، وقد استبدل «الجيم» بالركض في باحة المنزل.. «وائل» ابتكر مزيداً من الطبخات الغريبة، وجرّب بنا بعض الحلويات.. «ياسمين»، صممت لوحات إرشادية صحية برسومات بديعة، اعتمدتها مؤسسة «الحق في اللعب»، وهي منظمة دولية مقرها في كندا، ستوزع رسوماتها على عشرات الدول.

في المساء نتجمع لمشاهدة مسلسل لاكاسا، ونغني معه «بيلا تشاو»، أو نجلس على المائدة نلعب «الشدة»، وأحيانا لعبة ورقية تشبه «الداما».

أطيل الوقوف أمام مكتبتي، فأفزع من فكرة أنني لم أقرأ روايات كثيرة ومهمة.. فقد انشغلت طيلة السنوات السابقة بالمقالات، كل مقال يحتاج يوما أو أكثر من القراءة المتخصصة.. آخر رواية قرأتها كانت رائعة الصديق أكرم مسلم «بنت من شاتيلا».. قررت العودة لهذا العالم الجميل والممتع.. أنهيت «1984»، رواية مذهلة تتحدث عن الأنظمة الشمولية، وفكرة فقد الحرية.. ورواية «عطارد» المجنونة، والرهيبة، التي تتخيل عالَماً قادماً، يتحول فيه البشر إلى وحوش زومبي.. ورواية «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، رواية مذهلة، واقعية، تغوص عميقا في ورطة الوجود الإنساني، وتصف أزمة المواطن وتكسُّر أحلامه في ظل الاستبداد.. ورواية «الطاعون»، التي تتحدث عن وباء الطاعون حين أصاب وهران الجزائرية، وكيف كان أثره على الناس.. (محاكاة لواقعنا الحالي).. سأقرأ لاحقا أعمال يحيى يخلف، وإبراهيم نصر الله، وما سيتيسر من روايات فلسطينية وعربية.

اتصلت بأهلي في الأردن، واطمأننت على أوضاعهم التي تشبه أوضاعنا.. كل يوم، أفكر بالاتصال بأصدقائي، لأطمئن عليهم، أحتار بمن أبدأ.. وفي النهاية لا أتصل بأحد.. أكتفي بمتابعتهم على فيسبوك.

بين صحوٍ ونوم، وأكلٍ ولعب، ومتابعة أخبار الـ»كورونا»، وبعض الأشغال الصغيرة.. تمضي الأيام والأسابيع.. ننتظر فرجاً من الله، لا شيء خارقاً يمكن أن نفعله.. لأول مرة يكون جلوسنا في البيت عملاً بطولياً.

ربما يطول مكوثنا في بيوتنا أكثر مما كنا نتوقع.. مع صعوبة ذلك، هي فرصة أن نحس بمعاناة الأسرى، وهي معاناة لا تقارن بما نعانيه.. وفرصة أن نستشعر معاناة النساء اللواتي يمضين أعمارهن حبيسات البيوت، وأن نشعر مع من ليس لديهم بيوت تؤويهم.. ومن يقطنون بيوتا من صفيح، وسكان العشوائيات، واللاجئين، والمشردين..

وهي أيضا فرصة لنتذكر الأشياء الغالية الكثيرة التي كانت بين أيدينا، ولم نكن نقدرها..

لعل هذه المحنة تعيد لنا شيئاً من إنسانيتنا التي فقدنا أجزاء منها في حمّى الاستهلاك، والسعي المحموم نحو أهداف مادية.. والركض بلا توقف في زحمة التنافس على أشياء هالكة وزائلة.

وسلامتكم..

التعليقات