كورونا وأبطال الجيش الأبيض؟!

كورونا وأبطال الجيش الأبيض؟!
كورونا وأبطال الجيش الأبيض؟!
د. رياض عبدالكريم عواد

في ايطاليا، صرخ الطبيب جيامبييرو جيرون بأعلى صوته، 85 عاماً، بعد ان اضطر للعودة إلى العمل للقتال في الحرب ضد جائحة كورونا، وبعد أن سقط 3200 طبيبا ضحية لهذا الوباء، واضطرت ايطاليا لتجنيد خريجي كلية الطب قبل إتمام دراساتهم وتدريبهم، صرخ هذا الطبيب باسمه وباسم كل طبيب يقاتل في خط الدفاع الأول عن المجتمع والناس "اذا كنت خائفاً من المرض؟ اذا من الأفضل ألا تكون طبيباً"، نعم هذا هو المعنى الحقيقي للإنسانية .. وهذا الطبيب، كغيره الكثيرين، يضربون لنا المثل في الاخلاص لقيم المهنة والتضحية.

وعلى الفضاء الأزرق تكررت تغريدة تحية للاطباء والتمريض وكل كوادر الصحة: ‏الرتب بحسب الأهمية "ملازم - ملازم اول- نقيب - رائد - مقدّم - عقيد - عميد - لواء - فريق - ممرّض - طبيب"؟!

وفي مدينة ووهان الصينية، وفي مشهد جميل تقفز له القلوب فرحا، وقف جيش الشعب يؤدي التحية لأطباء الشعب، بعد الملحمة البطولية التي خاضوها وانتصروا فيها على هذا العدو غير المرئي، لقد واصلوا العمل ليل نهار، ناموا في الطرقات وهي يستندون على أكفهم المتعبة، ووجوههم المشحبرة والمجروحة من أثار الكمامات؟!

كما تزينت مباني مدن الصين الجميلة بصور الاطباء الضوئية لتشع فرحا وامنا وامانا على الشعب من جنود الجيش الابيض؟!.

ليس غريبا علينا في فلسطين أن نتعرف على تعب وتضحية الكادر الصحي الذي شاهدناه مئات المرات وهم في غرف الطوارئ والعمليات تختلط فيها دماء المصابين مع ارديتهم البيضاء لتحيلها إلى اللون الاحمر القاني، ومنظر ضباط الإسعاف وهم يناورون المرة تلو المرة محاولين إنقاذ مصاب هنا وهناك سقط برصاص القناص الإسرائيلي، يتقدمون غير عابئين بالمصير الذي ينتظرهم.

طبيب فرنسي على قناة TV5 قال ..... "منذ أن بدأ إنتشار الفيروس وبدأ موت المرضى وانا أشعر أنني في حاجة إلى الذهاب إلى طبيب نفسي، لكني اليوم أحسست وكأني احترق من الداخل ..... هذا ما أحسست به فعليا، أني أشتعل ولم أعد أستطيع الذهاب إلى العمل، وها أنا اليوم أتابع جلسات العلاج النفسي، وآخد دواء قويا فقط لأستطيع أن أنام، دون سماع توسلات من كانوا البارحة مرضى وهم اليوم موتى".؟! ان تغريدة هذا الطبيب الفرنسي تظهر بوضوح مدى الألم الذي يكابده الاطباء والعاملين في الحقل الصحي وهم يقاتلون من أجلنا.

هذا الألم والمشاهد والقيم الجميلة قد يكون شابها بعض المبالغات في النظر والمقارنة بين الاطباء مع مختلف فئات المجتمع الاخرى. تكررت التغريدة التالية على صفحات الفضاء الأزرق كثيرا، قد يكون بحسن نية وبهدف الإشادة بالاطباء وكل العاملين في المجال الصحي: "كورونا أوقفت تصوير مسلسلات رمضان التافهة، كورونا أوقفت المهرجانات، كورونا اوقفت السهرات الليلية، كورونا وضعت أهل الفن وكرة القدم والمغنيين وغيرهم في حجمهم الحقيقي...، كورونا جعلتنا نتعرف على قيمة الأطباء والدكاترة والعلماء وجنودنا الابطال ...... كل الناس تلتزم البيوت إلا هم ...الكل خائف من الموت الا هم، يواجهون الموت بشجاعة، كورونا جعلتنا نعترف بقيمة العلم والمعرفة وأن نشر الجهل والمجون اكبر خطيئة ... وكأن الله أعاد ترتيب المجتمع الذي كنا نعيشه، تجد مغني أو ممثل أو لاعب كورة لا يفقه شيئا ووضعه في المجتمع VIP ..."؟!

في الحقيقة، المحتمع لا يمكن أن يقوم على أكتاف فئة واحدة دون باقي فئات المجتمع. الحياة بحاجة إلى الفنان الذي يجسد الفكرة ويدخل البسمة على القلوب، والى الرياضي الذي يجلب المتعة إلى المشاهدين، والى رجل الدين الذي يدعو إلى المحبة والاخلاق وعبادة الواحد الأحد دون تفرقة أو بغض وكراهية، وإلى ...... الكاتب والرسام والعامل والجندي والمحاسب والمهندس ورجل الامن، المجتمع بحاجة لنا جميعا، كل في مكانه وموقعه على أن نعي جميعا أن المقياس الوحيد لتمييز هذا عن ذاك هو الاخلاص والتفاني وكل القيم النبيلة التي تحض عليها الإنسانية والاديان، وأن القاعدة التي يجب التي تحكمنا في عملنا "أن نقيم الله فيما أقامنا الله عليه"؟!.

اذا، ولأن حديثنا عن الصحة والعاملين فيها وعن الاطباء وزملائهم من تمريض وفنيين ومهنيين، فإن هذا يدفعنا أن نقول بوضوح ان تكريم هؤلاء يأتي مما يلي:

اولا، يجب توفير كل وسائل الامان لهم من ملابس ملائمة وكمامات واقيه، وكل أسباب الحماية والرعاية، سقوط هؤلاء ضحايا في المعركة يعني ببساطة انهيار خط الدفاع الأول، وهو أهم مؤشر على انهيار النظام الصحي.

ثانيا، تطوير الأنظمة الصحية من قوانين ونظم ومباني ومهمات وأدوية حتى تستطيع هذه الكوادر أن تعمل وتعطي وتبدع في جو صحي يضمن لها المحافظة على حياة المريض وعن حياتها ووضعها المهني.

ثالثا، إعطائهم حقوقهم المادية المشروعة بما يتناسب مع جهودهم وسنوات التعليم الطويلة التي لا تنتهي، قضوها في الدراسة و التعليم، والمصاريف الكبيرة التي تجثمتها عائلاتهم من أجل أن يقدموا للمجتمع هذا الطبيب؟!.

رابعا، تعزيز احترامهم بين المجتمع وحمايتهم من بعض الشواذ، الذين لا يستخدمون فقط الألفاظ البذيئة ضدهم، لكنهم لا يتورعون عن استخدام القوة والعائلة والقبيلة في الاعتداء على كوادر الصحة ومؤسساتها والتكسير والعبث فيها؟! ان أخذ البعض للقانون بيده تحت حجة أن هذا الطبيب أخطأ أو هو السبب في موت هذا المريض لا ينم عن مجتمع يحترم العلم والمعرفة.

خامسا، وضع أنظمة لرصد الاخطاء الطبية وتسجيلها، وقوانين تحمي المريض والطبيب وتعطي كل ذي حق حقه يجب أن يكون له الأولوية، لنكون صادقين في إعادة نظرتنا إلى هذه المهنة المقدسة.

سادسا، غرس الثقة بالاطباء والمؤسسات الصحية والعاملين فيها لينعكس إيجابيا على حجم الحالات التي تحول للعلاج خارج المؤسسات الصحية الوطنية، ويقلل من ميزانية العلاج بالخارج التي ترهق ميزانية الصحة والدولة، في تحويل حالات لا تستحق التحويل تحت ضغط الخوف والتشكيك والعائلة والعادات والعرف والمجتمع.

الشهيد الطبيب المصري أحمد اللواح، سقط صريع هذا الوباء الملعون وهو يقاتل ضده من مختبره، قال في احدى تغريداته قبل استشهاده: "كل يوم بنروح المناوبة بنتوقع ما نرجع على بيوتنا، وحتى لما نرجع نخاف نحضن احبابنا ...... الوباء ما بيختار الناس، لكن ممكن انتم تحموا الاطباء والتمريض وفنيي المختبرات بانكم تظلوا في البيت و وما تطلعوا الا للضرورة، وتهتموا بالنظافة والتعقيم وعدم مشاركة الاخرين اشيائهم.... خليك في البيت عشان تحميني وتحمي نفسك وغيرك؟!

هل نستمع إلى نصيحة هذا الشهيد القدوة من الجيش الابيض، هل يعيد المجتمع ترتيب أولوياته نحو تعزيز المعرفة والعلم والحق؟!

التعليقات