السياسة في زمن الكورونا: هرطقات بلا طعم ولا لون ولا رائحة!!

السياسة في زمن الكورونا: هرطقات بلا طعم ولا لون ولا رائحة!!
السياسة في زمن الكورونا:

هرطقات بلا طعم ولا لون ولا رائحة!!

د. أحمد يوسف

كثيرة هي الموضوعات التي جالت بخاطري للكتابة عنها، وهي في معظمها ذات نكهة سياسية، ولكن يبدو أن المزاج العام للشارع الفلسطيني والعربي يغرِّد بعيداً عنها رغم أهميتها لديه، إذ لا شيء – في الحقيقة - يمكن الحديث عنه في زمن يشهد إنشغال بال الناس على الأرض قاطبة بخبر الإحصائيات المتعلقة بوباء الكورونا، من حيث أعداد الموتى والمصابين يومياً حول العالم، والتسابق المحموم لانتاج لقاح يهدئ من روع البشرية، ويقلل من حالة الخوف والفزع التي انتابت شعوب الأرض قاطبة.

كل شيء يبدو آخذاً في التراجع وتلاشي القيمة والأهمية إلا أخبار الكورونا، فهي "الأكشن" الوحيد الذي يلاحقنا في المشاهد الخالية للشوارع والأسواق والمساجد والملاعب والمطارات والمدارس والجامعات، في سيمفونية تراتيلها محزنة من الملل الذي يعاني منها الجميع: الأب؛ الذي لم يتعوّد الجلوس أسبوعاً كاملاً بعيداً عن أجواء اهتماماته اليومية، والذي وجد نفسه يعافس الأطفال في البيت ويشاطرهم السبَّ والصراخ، والزوجة التي تتهدد مملكتها استفزازات "أبو العيال" وتدخلاته في كل شيء تعمله، والطفل الذي وجد نفسه محشوراً بين أربعة جدران وفي فراغ قاتل وتناطح لا يتوقف مع باقي أخواته، والشباب الذين يحاولون من خلال الانترنت شغل أوقاتهم عبر التواصل مع الأصدقاء في محاولتهم طيَّ ساعات الليل والنهار الطويلة، والتي يأخذ النوم المفرط حيزاً منها، فيما تشكّل مشاهدة التلفاز والأفلام السينمائية والمسرحيات وقراءة الكتب ملامحها الأخرى.

بالطبع، لحديث الأكل والمطبخ قصة أخرى، حيث لا يتوقف الهرس والقضم للطعام طوال الوقت حتى تفرغ الثلاجة، وعندها يبدأ سؤال الزوجة أو "ست الحبايب" بعد ذلك عما تريده من السوق أو "السوبر ماركت" من اللوازم والمشتريات للوجبات القادمة.

 في الحقيقة، يبدو أن الأطفال بما لهم من طاقة حيِّة يريدون تفريغها هم الأكثر نرفزة وإزعاجاً، فالشارع باعتباره الفضاء الأوسع لهم محظور عليهم لاعتبارات الكورونا، و"البيت ضيِّق والحمار رفاس!!" كما يقولون، فماذا بإمكان هؤلاء فعله، وما عسى  الأب والأم القيام بعمله لتسكين شقاوة هؤلاء الصبية، الذين لا يفهمون لماذا تعطلت روضاتهم ومدارسهم فجأة، ولماذا هم في البيت أسرى ولا يسمح لهم باللعب خارجه أو زيارة أطفال الجيران؟! ومن تجاوز سنوات الطفولة سيتسائل بنزق وانفعال: لماذا نحن جميعاً في حالة من العزل والحجر الصحي؟!

كورونا الذي أوقف كل شيء!!

قبل السماع بفيروس كورونا، كانت مخططاتي لهذا العام هي السفر والقيام بجولة لزيارة بعض الدول العربية والإسلامية، التي يجمعنا مع بعض مؤسساتها مصالح خاصة تتعلق بعملنا في مؤسسة (بيت الحكمة) وجمعية أساتذة الجامعات، إلا أن الرسالة التي تلقيناها بعد ظهور الفيروس اللعين (كوفيد 19) تقول بلغة قطعية ساخرة: "وتُقدّرون وتضحك الأقدارُ"!!

نعم؛ أنجزنا بعض ما كنا نتطلع إليه، إلا أن قيود "كورونا" تهدد تطلعات كل ما كنا نهدف لتحقيقه.. العالم اليوم – للأسف -  كله مشلول عن الحركة، وأنماط الحياة آخذة في التغيير، ولا أحاديث خارج ما نتلقفه من وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كشف هذا الوباء بتداعياته العالمية عوراتنا جميعاً كأفراد وجماعات وشعوب وأمم، فالكل حاله يقول: "نفسي نفسي"!! الكل يسابق الزمن قطعاً لطريق المنيِّة من الوصول إليه، ومن لديه نصيحة أسداها، إذ لم يتخلف الأطباء والدعاة وأصحاب الأحاجي عن الإدلاء بما لديهم من علم أو دون ذلك، والرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين الجميع "محاوشة"، وليس عليه حساب ولا عقاب!!

في الواقع، لقد سمعنا وقرأنا وتعلمنا هذا الأسبوع والذي قبله الكثير عن وباء الكورونا، وإن ظهرت بعض الأمور في غير سياقاتها الطبيعية من حيث الجدّ والهزل، إذ أظهرت مشاهدات صالات الحجر الصحي سلوكيات هي أشبه بمسرحيات فكاهية جعلتنا نضحك أكثر مما نبكي ونستغفر!! كما أن الكثير من المواعظ  الإرشادية التي أبداها بعض الأئمة والمشايخ لمواجهة الفيروس بخلطة من التوابل كانت أشبه بوصفات لإعداد صحن سلطة غزَّاوية أو كبسة خليجية!!

إن حجم المقاطع الفكاهية التي ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي للتندر على حالات الحجر الصحي أو منع التجوال هي فوق أن تحصى، وقد جاء الكثير منها من إبداعات عفو الخاطر لدى المواطنين ليس إلا. 

في ظل هذا الفراغ الإجباري تتلاحق الأسئلة وتتعدد التساؤلات: ماذا عسانا أن نفعل، فالعقل لم يتعود هذه الأجواء من قبل، وعملية التكيف ستأخذ بعض الوقت حتى تستقيم ميكانزمات الدماغ من العمل، وهذا معناه استثمار حالة العزل هذه في مشاهدة بعض البرامج الترفيهية لتجاوز حالة العطل والاكتئاب. بالنسبة لي، قمت مشاهدة عدة أفلام وثائقية وتاريخية واجتماعية وإنسانية لم أكن أجد لها في السابق وقتاً، رغم الحديث عن قيمتها الثقافية والعلمية والمعرفية لأمثالنا ممن ارتبطوا بمهنة الكتابة والتدريس.  

نحن اليوم نعيش حالة من الصدمة والذهول، تتطلب إجراء مراجعات شخصية واجتماعية وسياسية، والتفكير في كل ما يحدث حولنا؛ لأن قادم الأيام - إن تخطينا هذه الحالة - لن يكون كسابقاتها، ولا بدَّ لنا نحن الفلسطينيين مراجعة كل ما هو قائم وأخذ الدروس والعبر، إذ أثبتت التنظيمات والحركات والفصائل أنها ليس أكثر من "طرش البحر"، ولا تملك الأهلية لقيادة شعب وإدارة مرحلة هي الأخطر في حياتنا، وكل ما تفعله من داخل أبراجها العاجية هي تقديم النصائح والمناشدات!!

لكل هؤلاء الزعماء والساسة أقول: إن السياسة في زمن الكورونا غدت حالة من الهرطقات، وكل ما تفعلونه هي مشاهد مصطنعة لتبهيت الرأي العام الفلسطيني. بصراحة وبكل مسؤولية أقدم هذه السردية التاريخية المتعلقة بالتعامل مع الفساد، وفيها لكل مُدَّكر موعظة وأثر.. يُروى عن الملك يوسف بن تاشفين؛ المعروف بالزهد ومحاربة الفساد، في أمر الأمير المعتمد بن عباد؛ أحد الولاة السابقين بالأندلس، والذي تمَّ عزله ومعاقبته لأخطاء ارتكبها، وقد جاء من يتشفّع له، فكان رده: "يقولون، لنرحم الرجل فقد كبر سنه وذهبت دولته ولم يعد يملك من الأمر شيئًا، وما سلّم حتى قَتل منا نفراً كثيراً ،وقد لقينا منه ما لم نلقَ من الروميّ وجيشه، فما بالكم تذكرون آخر الأمر ولا تذكرون أوّله؟ وتذكرون العاقبة وتنسون الأسباب؟ يتشفّعون لي فيه ويقولون: ارحموا عزيز قوم ذُل! وما ذُل حتى أذل، وإنما إذلاله إذلال رجل واحد، وكان ذله ذل أمّة بأكملها"!

لله در القائل: ما قيمة الناس إلا في مبادئهم، لا المجد يبقى ولا الألقاب والرتب.

وفيما نحن نعيد ترتيب أمور حياتنا في ظل مستجدات كورونا، أُذكر إخواني بتلك الكلمات الرائعة للسيد جمال الدين الأفغاني:" ملعون في دين الرحمن... من يسجن شعباً.. من يخنق فكراً.. من يرفع سوطاً.. من يُسكت رأياً.. من يبني سجناً.. من يرفع رايات الطغيان.. ملعون في كل الأديان.. من يُهدر حق الإنسان.. حتى لو صلّى أو زكّى وعاش العُمرَ مع القرآن.”

التعليقات