الطيب عبد الرحيم

الطيب عبد الرحيم
الطيب عبد الرحيم

نبيل عمرو

حتى لو كان الموتُ متوقعاً، بفعل السن أو المرض أو تعب القلب، فإنه مؤلم.

ويكون الموتُ أشدَّ إيلاماً حين يطال الأحبة الأقربين الذين تجمعك بهم ذكريات عمر طويل، هي تلك التي تؤلفها أيام الخطر، والإفلات من القتل بمجرد الصدفة.

 بالنسبة لي فإن الطيب عبد الرحيم كان وسيبقى أحد هؤلاء.

في المبنى التاريخي للإذاعة المصرية، 4 شارع الشريفين في القاهرة، وفي العام 1971، حين كنا خارجين من مقتلة أيلول، التقيت لأول مرة بذلك الشاب المتدفق حيوية وحرارة، كان يومها نائباً لمدير صوت العاصفة، إلا أن خاصيته المميزة أكثر من المنصب الإداري هي مواظبته على تقديم تعليق يومي موجه لمقاتلي الثورة الفلسطينية.. كان يكتبه بقلمه الحار ويؤديه بصوته القوي، وكان بمثابة المادة التعبوية الرئيسية التي ينتظرها آلاف المقاتلين كل مساء..

حين قررت القيادة تكليف المؤسس فؤاد ياسين بمهمة ديبلوماسية رفيعة، كلف الطيب بتسلم مسؤولياته، واقترحني نائباً له، ولسوء حظنا أن إذاعتنا الرئيسة في القاهرة أُغلقت بفعل خلاف سياسي مع القيادة المصرية، وتقرر تأسيس إذاعة بديلة في بيروت، كان الطيب ومعه فريق عمل هندسي وإذاعي من كُتّاب ومؤلفي أناشيد وملحنين ومذيعين يسابقون المعوقات الهائلة لاختصار الزمن الذي كانت فيه الثورة بلا إذاعة، وفي احرج وأدق الساعات، حيث المعارك على كل الجبهات لا تتوقف، وخلال شهور قليلة تمكن الطيب ورفاقه من وضع صوت الثورة ثانيةً على الأثير، كان ذلك يبدو في حينه وبالقياس مع الظروف المعاكسة هائلاً بل استثنائياً.

كان التأسيس الصعب والمتحدي يتم تحت مطر القذائف وانفجارات السيارات الملغومة، في تلك الأيام التي لا تُنسى كان الموت والحياة في بيروت محكومين بقانون الحظ ليس إلا.

كانت إذاعة الثورة بمثابة المدرسة الأكثر تأهيلاً لإنتاج القادة، ليس في مجال الاعلام أو التخصص الإذاعي، بل في المجالات التي لا تقل حيويةً وحساسية، فقرر الذي كلف المدير السابق مهمة ديبلوماسية ان يكلف خليفته لإرساله الى ذلك المجال الحيوي، فتم تعيين طيب عبد الرحيم ممثلاً لمنظمة التحرير في أكبر دولة كونية تعترف بالفلسطينيين وتتبنى حقوقهم وتقدم كل مستويات الدعم لثورتهم، هي الصين الشعبية، وكذلك يوغوسلافيا عاصمة عدم الانحياز، ثم مصر والأردن، كان سفيراً لفلسطين في هذه الدول النوعية جميعاً، وفي ذلك الزمن الذي كانت فيه الديبلوماسية الفلسطينية تتأسس على مستوى العالم بعد إنكار لها دام عقوداً، لم يكن تعيين السفير مجردَ إجراءٍ وظيفي، بل كان انتقاءً لمواصفات لا بد أن تتوفر في مَن يكلف بالسفارة كي يثبّت فلسطين على أجندات الدول واهتماماتها.

حين تراجع سجل الحياة العملية للطيب عبد الرحيم، فإن ما تكتشفه من تفرد وتميز أنه عمل في كل المجالات. التوجيه السياسي الذي شغل مفوضيته قبل الطيب صديقُه وزميله الشهيد ماجد أبو شرار، وكونه يعمل مباشرة مع ياسر عرفات معتمداً وموثوقاً، فقد كان يكلف بكثير من المهام التي يتابعها ويرعاها القائد العام، ومنذ قدومه الى ارض الوطن، حيث التأسيس الأصعب لسلطة كان الرهان عليها هو الرهان على الدولة المنشودة، فقد عمل مع القائد العام في جميع فصول التجربة الصعبة التي بدا لنا بعد حين أنها مستحيلة، ذلك أن أمين عام الرئاسة، وحين يكون الرئيس ياسر عرفات، فلا يقتصر العمل على مهمة إدارية محددة، وإنما يتسع ليشمل كل الاتجاهات، فكل من عمل مع عرفات خصوصاً ممن يسمون رجال الحلقة الضيقة، عليهم ان يكونوا في جاهزية تامة لأداء كل الأعمال.

كان قريباً من عرفات منذ إرساله في البدايات المبكرة في واحدة من أشهر بعثات التدريب والتأهيل الفتحاوية في الصين زميلاً لخليل الوزير وحتى رحيل الزعيم بعد سلسلة من المعارك والحصارات، ومنذ المناداة بمحمود عباس خليفة له احتفظ الطيب بموقعه الهام وبمهماته طيلةَ عهد الرئيس عباس، إلى أن وافته المنية في القاهرة، حيث رفيقة عمره وحاضنة آماله وحياته وكفاحه المصرية الفلسطينية «أم العبد».

لقد قضى أيام راحة قليلة في أحضان العائلة التي انشغل عنها مرتحلاً بين بلد وآخر ومهمة وأخرى، مات في القاهرة وكأن العاصمة المصرية هي قدره من البدايات حتى النهايات. لقد درس فيها وتخرج من جامعة أزهرها الشريف، وفيها كان أول عمل قام به كواحد من أربعة او خمسة شباب انطلق صوت الثورة من حناجرهم، فهم أول من نشر على الأثير صوتَ العاصفة.. صوتَ فتح.. صوت الثورة الفلسطينية، وفي القاهرة مثَّل شعبَه وقضيته سفيراً، ولأن للقدر تصرفاً مهيباً فقد لفظ أنفاسه الأخيرة في القاهرة ودفن في ثراها الطيب، وحين يدفن فلسطيني في أي تراب فإن قطعة من الوطن تُدفن معه.

قبل رحيله بساعات تحدثتُ هاتفياً مع ابنه تامر لعلني أسمع شيئاً عن احتمالات نجاته من القدر المميت الذي داهمه على حين غرة، كانت نبرات ابنه تنضح بالحزن واليأس، تذكرت زيارتي لضلع المثلث أحمد عبد الرحمن قبل يوم من رحيله، فازددتُ يقيناً بأن لعبة القدر تحتوينا وتتربص بنا، تأخذ وتؤجل وليس غير البارئ عز وجل من يعرف بدايتها ونهايتها.

التعليقات