بيرني ساندرز .. أيّ شجاعة

بيرني ساندرز .. أيّ شجاعة
بيرني ساندرز .. أيّ شجاعة

عبد المجيد سويلم

أشعر بالرضى أنني على مدار السنوات الثلاث أو الأربع الماضية كتبت عن المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية بيرني ساندرز، على صفحات «الأيام» لمرات عدة، باعتباره التعبير الأهم عن التحولات التي جرت وما زالت تجري في مواقف وسياسات الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة.

بكل اطمئنان نستطيع اليوم وصف هذا الرجل بالشجاع الذي لا يخشى في الحقّ لومة لائم.

لقد تحول هذا المرشح من «حالة» إلى ظاهرة، بدأت تحفر عميقاً في المجتمع الأميركي، وهي ظاهرة بدأت تتكشف ملامحها في السنوات الأخيرة، وربما في العقد الأخير. وهي ظاهرة تحول قطاعات واسعة من قاعدة الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وخصوصاً الأجيال الشابة الجديدة من هذه القاعدة نحو «اليسار» بكل المعاني، وفي السياستين الداخلية والخارجية على حد سواء.

بل هناك من يعتقد ـ وأنا من ضمنهم ـ أن نجاح الرئيس السابق باراك اوباما لم يكن الا ثمرة من ثمرات هذا التحول، حتى وان كان ذلك التحول لم يتجاوز منطقة الوسط في ذلك الوقت.

ظاهرة ساندرز بدأت بالنضج والتبلور اثناء سباق التنافس بينه وبين السيدة هيلاري كلينتون، حيث اعطته التقديرات في حينه ما يصل إلى 40% من دعم قواعد الحزب الديمقراطي في ذلك الوقت.

أن يعلن مرشح للرئاسة في الولايات المتحدة بأنه اشتراكي، وبأنه مع مكتسبات العاملين، ويعيد الاعتبار لمقولات اقتصادية واجتماعية وثقافية كان يبدو وكأن الزمن قد عفا عليها، وأن يهاجم القيادة اليمينية في إسرائيل، ويصفها بالرجعية والعنصرية، وأن يرفض المشاركة في مؤتمر «ايباك»، بسبب انحيازها الصارخ لإسرائيل، فهذه ثورة حقيقية، ومتغيرة على أعلى درجات الأهمية، وتحول يرقى إلى مصاف التحولات الاستراتيجية لكامل مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبما يفوق حتى موجة مناهضة الحرب على فيتنام.

لم يكن ممكناً بطبيعة الحال أن تصل ظاهرة بيرني ساندرز إلى هذا المستوى من الوضوح لولا أن «الترامبية» قد وصلت الى ما وصلت اليه من التغول والتوحش على كل المستويات، ولولا ان هذه الترامبية انقلبت على كامل شروط السياسة الاميركية الداخلية والخارجية، ولولا أن الانحياز الاميركي لإسرائيل وصل إلى ما يفوق تصورات وأحلام اعتى عتاة القادة الإسرائيليين أنفسهم.

ولم يكن ممكناً من زاوية رؤية السياقات التاريخية أن تتبلور الظاهرة «الساندرزية» بهذه القوة والسطوع، لولا ان ترامب كشف عن كامل اوراقه بالتحالف الوطيد مع المسيحية الصهيونية، ومع أكثر فئات المجتمع الأميركي رجعية وعنصرية، وبما يهدد لعقود قادمة الاستقرار والسلم والتعايش، بل وحتى الديمقراطية في الولايات المتحدة والعالم على حد سواء، ولولا ان الترامبية أصبحت تهدد المجتمع الدولي برمّته بتسلط القوى السياسية الأقرب إلى نسخة جديدة من فاشية جديدة، بدأت معالمها تتوضح من خلال تتنامي ظاهرة اليمين الرجعي في اوروبا وفي بعض البلدان الأخرى.

بكل المقاييس نحن في الواقع الفلسطيني أمام متغيرات استثنائية، وأمام تحديات خطيرة.

فإذا عاد ترامب إلى سدة البيت البيت الأبيض، وعاد اليمين في اسرائيل وشكل تحالفُه الحكومةَ الجديدة في إسرائيل، يصعب الاستفادة من ظاهرة ساندرز لأسباب ظاهرة للعيان، ليس أقلها أن ساندرز متقدم في العمر، وهو يهودي لا تستطيع القوى اليمينية اتهامه باللاسامية، وليس سهلاً أن يبرز من بين صفوف الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الشخص الذي يوازيه شجاعةً وإقداماً، بل وحتى معرفة ومثابرة. أما إذا تمكن الحزب الديمقراطي من أن يحمل ساندرز إلى البيت الأبيض فإن الدولة العميقة في الولايات المتحدة ـ مهما كانت عميقة ـ لن تتمكن من إيقافه عند حدود بقاء الانحياز الاميركي المطلق لإسرائيل. اليمين المتطرف في إسرائيل من شدة تلهفه على عطايا ترامب وهداياه السخية له لم يدرك، ولم يفهم ان تحالف إسرائيل مع ترامب بهذه الصورة وبهذا القدر هو سلاح ذو حدّين.

ذلك ان نتنياهو ومنذ الولاية الثانية والانتخابات التي سبقتها للرئيس اوباما سلم كل أوراقه لليمين الرجعي في الولايات المتحدة. بل خاض نتنياهو معركة حياة او موت من اجل نجاح ترامب في الانتخابات الأميركية في العام 2016، ووضع كل أوراق اليمين الإسرائيلي ورهنها لصالح ترامب والترامبية، في واحدة من أكثر مغامرات نتنياهو تهوراً وخفة، مدفوعاً بحراجة مأزقه الخاص، وتخوفاً من ان ضياع فرصة من هذا التحالف قد تعني نهاية «الحلم» الصهيوني العنصري في تصفية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، والمباشرة بحسم الصراع مرةً وإلى الأبد، كما تخيل له ولكل مكونات تحالفه في إسرائيل.

وعندما ينحاز ترامب للمطالب الإسرائيلية، بل ويذهب الى ما هو أبعد منها في بعض الجوانب والمجالات، فإنه لا يفعل ذلك من وحي ضميره الأيديولوجي فقط، وإنما هو مدفوع ايضاً بمأزقه الخاص، وهو يعرف حق المعرفة ان بمقدور اليمين الإسرائيلي العنصري ان يلعب الدور الذي يحتاجه ترامب في المعركة الانتخابية القادمة للولاية الثانية للرئيس الأميركي.

الحد الأول من سلاح هذا التحالف «أثمر» عن هدايا وعطايا ترامب لإسرائيل اليمينية والعنصرية.

أما الحد الثاني لهذا السلاح فما زال برسم الانتخابات الأميركية القادمة في الولايات المتحدة، في شهر تشرين الثاني من هذا العام.

الحد الأول مؤقت وليس له ان يتحول الى واقع مكرس ونهائي، بحكم ما يلقى من مقاومة شديدة من الشعب الفلسطيني، وفي ظل ما هو متوقع ومنتظر من هذه المقاومة مع تقدم مسار فرضه على أرض الواقع، وفي ظل المعارضة الدولية العارمة ضد ما يسمى بصفقة القرن.

أما الحد الثاني فهو تحول استراتيجي موضوعي، وهو شديد الصلة بصراع بين شرائح برجوازية في المجتمع الاميركي، افترقت عند حدود معينة حول مفهوم الهيمنة ودور الشرطي العالمي، وحول سبل ووسائل التعايش مع مكونات القطبية العالمية، وحول الكثير والكثير من مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة وفي العالم.

لهذا كله فإن المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة هي عملية تاريخية ومفصلية بالنسبة للشعب الفلسطيني، وكذلك بالنسبة للشعوب العربية، وهي معركة قاسية لأن النظام العربي في حقيقة الأمر يقف الى جانب الترامبية فيها، ولأن قدرة أطراف معينة من النظام العربي على التأثير عليها عبر الصوت العربي والإسلامي ما زالت كبيرة، في حين أن قدرة الشعب الفلسطيني على مثل هذا التأثير ربما تكون أقل مما نتصور مع أن فرص مثل هذه القدرة قد تضاعفت في السنوات الأخيرة، وربما أن الترامبية نفسها، والعنجهية الإسرائيلية ستساعدان معاً في تحشيد الكتلة الانتخابية العربية والإسلامية لصالح ساندرز او المرشح الديمقراطي بأكثر كثيراً مما تبدو عليه الأمور اليوم.

فلسطين في قلب الانتخابات الأميركية القادمة، وهذا بحد ذاته عنوان تحولات كبيرة وربما عنوان انتصار قادم.

التعليقات