كيف تفاعلت أسواق العملات مع تداعيات فيروس كورونا؟

كيف تفاعلت أسواق العملات مع تداعيات فيروس كورونا؟
شهدت الأسواق المالية عمومًا، وسوق الفوركس على الأخص، اضطرابات حادة خلال الأسبوع الماضي على خلفية انتشار وباء كورونا في الصين وعدد من البلدان الأخرى. وبحسب الإحصائيات المتوفرة حتى كتابة هذه السطور، بلغ عدد ضحايا الفيروس القاتل أكثر من 600 حالة، فيما تجاوزت الإصابات 25، 000، وهي جميعها أرقام مرشحة للزيادة على مدار الساعة.

ردة الفعل الأولية في الأسواق المالية تمثلت في خسائر حادة لأسواق تداول الأسهم والطاقة، فيما ارتفعت أصول الملاذ الآمن مثل الذهب والين الياباني والفرنك السويسري. وتبدو حالة الفزع الراهنة منطقية في ظل الوزن النسبي للاقتصاد الصيني، وهو الثاني عالميًا بعد الولايات المتحدة. وخسرت أسواق الأسهم الصينية نحو 8% من قيمتها السوقية في اليوم الأول للافتتاح بعد انتهاء عطلة السنة الصينية الجديدة، والتي ظهر خلالها كورونا في ووهان، مركز تفشى الفيروس بمقاطعة هوبيب وسط البلاد.

التأثير على سوق العملات

في أسواق الفوركس، كانت أكثر العملات تضررًا هو الدولار الأسترالي، حيث هوى إلى أدنى مستوياته في عشر سنوات أمام الدولار الأمريكي عند المستوى 0.6682. ويمكن فهم هذه الخسائر الحادة في ظل الارتباط القوي بين الاقتصادين الأسترالي والصيني، حيث تعد بكين هي الشريك التجاري والاقتصادي الأول للقارة الخضراء.

في أسواق العملات أيضًا، استفادت ما يطلق عليها عملات الملاذ الآمن مثل الين الياباني والفرنك السويسري من شيوع نفور المخاطرة في الأسواق. وبرغم استقرار الأداء النسبي لهذه العملات أمام الدولار الأمريكي، إلا أن مكاسبها كانت أكثر وضوحًا أمام العملات الأوروبية والآسيوية.

وكسر اليوان الصيني أعلى المستوى المحوري 0.7000 أمام الدولار الأمريكي للمرة الأولى منذ عدة أشهر، وتحديدًا في أوج الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وتراجع سعر العملة الصينية لتسجل 0.7004 يوان لكل دولار مقارنة مع أعلى مستوياتها في خمسة أشهر والتي سجلتها قبل بداية الأزمة عند 6.9849.

ومن الأشياء المثيرة في سياق هذه التطورات هو أن العملة الصينية، وبرغم انخفاضها المذكور، لم تتأثر كثيرًا نتيجة هذه الأزمة. وكان الدولار الأمريكي قد حقق مكاسب أولية أمام العملة الصينية بأكثر من 2% خلال الأسبوع الماضي، ولكن استقر سعر اليوان لاحقًا على حدود المستوى 0.70028، وهو ما يعزى إلى أنه برغم الأثر السلبي لفيروس كورونا على الأداء الاقتصادي في الصين، إلا أن إغلاق الحدود وتعليق الرحلات الجوية قد يساهم في تحسين ميزان المدفوعات بفضل تخفيض إنفاق الصينيين على السفر لأغراض السياحة والتجارة. ويمثل هذا البند أحد الأسباب الرئيسية لعجز الميزان الخدمي في الصين.

ويرى كثيرون أن الأسوأ لم يأتي بعد، وأن تداعيات تفشي الوباء الأخير ستتجاوز الآثار الكارثية التي أحدثها انتشار السلالة الأولى من فيروس كورونا في 2003. ويعزى ذلك إلى تغير الوزن النسبي للاقتصاد الصيني، والذي كان يمثل 9 بالمائة من حجم الاقتصاد العالمي قبل 20 عام. تضاعف حجم الاقتصاد الصيني خلال تلك الفترة حيث يمثل حاليًا خمس الإنتاج العالمي.
في هذه الأثناء، بدى الدولار الأمريكي هو العملة الأكثر استفادة خلال التطورات الأخيرة. ولا تستند مكاسب العملة الخضراء على تدفقات الملاذ الآمن وحدها، بل ساهمت إيجابية البيانات الاقتصادية التي صدرت مؤخرًا في تعزيز التوقعات الإيجابية تجاه النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة. أيضًا فإن التحسن الملحوظ في بيانات الوظائف ومؤشرات مديري المشتريات في القطاع الصناعي، جنبًا إلى جنب مع الارتفاع الأخير في معدلات التضخم، قد عزز من التكهنات بإبقاء الاحتياطي الفيدرالي على سياسته النقدية دون تغيير، واستبعاد أي تخفيضات في أسعار الفائدة خلال الفترة القادمة، حتى برغم استمرار ضغوط الرئيس الأمريكي على البنك المركزي.

هذا التفسير يبدو هامًا في توقع أي تصحيحات هبوطية قد تلي انتعاش شهية المخاطرة مرة أخرى في حال نجحت الصين في إحكام سيطرتها على تفشي وباء كورونا. بعبارة أخرى، فإن الدولار الأمريكي سيحتفظ على الأرجح بالقدر الأكبر من مكاسبه حيث أن تحسن التوقعات الاقتصادية سيكون قادرًا على استيعاب أي انخفاضات قد تلحق بالعملة الخضراء نتيجة تلاشي تدفقات الملاذ الآمن.

التأثير على أسواق النفط

وتراجع الدولار الكندي هو الآخر في سياق موجة الهبوط التي اجتاحت العملات المرتبطة بالسلع. وتبدو خسائر الكندي أكثر ارتباطًا بانخفاض أسعار النفط، سواء الزيت الخام أو المشتقات البترولية، إلى أدنى مستوياتها في أكثر من عام بعد أن عزز تفشي الأوبئة في الصين المخاوف من تأثر الطلب على الطاقة في أكبر اقتصاد مستورد للنفط في العالم. ولا تقتصر مخاوف الإضرار بمعدلات الطلب على الاستهلاك داخل الصينى وحدها، بل يمكن فهمها في إطار تعليق نحو 50 شركة طيران والعديد من البلدان العالمية الرحلات الجوية والبرية والبحرية من وإلى الصين.

وعلاوة على ذلك، فإن الفشل في السيطرة على انتشار كورونا حتى الآن يرسم صورة أكثر قتامة للاقتصاد العالمي في مجمله. وبدا ذلك واضحًا مع إعلان عدد من الشركات الكبرى تعليق أو إيقاف إنتاجها لأجل غير مسمى، سواء بسبب إغلاق مصانعها في الصين، أو حتى في بلدان أخرى نتيجة تضرر سلسلة التوريدات جراء إغلاق الحدود.

برغم ذلك، عاد الدولار الكندي إلى الارتفاع بعد أن تعافت أسعار النفط نسبيًا لترتفع في تعاملات منتصف الأسبوع بنحو 3% بعد أن بدأت الدول المنتجة في التحرك لاحتواء تداعيات كورونا.

وأعلنت دول أوبك وحلفائها من خارج الكارتيل النفطي، وعلى رأسها روسيا، عن إمكانية خفض الإنتاج بكمية إضافية قدرها 500 ألف برميل يوميًا إذا استدعت الضرورة. وفي حال سريان هذا الخفض الإضافي، فإن هذا سيصل بإجمالي حصص الخفض التي أقرتها مجموعة أوبك+ إلى نحو 1.75 مليون برميل يوميًا. وقد تلقى هذه المحاولات دعمًا إضافيًا من توقف الإنتاج في ليبيا جراء الحرب الأهليةوإعلان حالة القوة القاهرة بعد إغلاق منشآت النفط الرئيسية عدة مرات خلال الفترة الماضية.

خاتمة

سيظل تفشي وباء كورونا واحد من أهم المحددات الرئيسية لاتجاهات أسواق العملات وباقي الأصول الأخرى طوال الفترة المقبلة. وإلى حين الإعلان عن التوصل إلى علاج شافي لهذا المرض اللعين، أو على الأقل نجاح جهود الصين في احتواء انتشاره المتسارع، فستظل أصول الملاذ الآمن هي الخيار المفضل في الوقت الحالي. وفي أحسن الأحوال ستشهد الأصول الأخرى بعض التصحيحات الصعودية الطفيفة، ولكن سرعان ما تتراجع عنها مع ازدياد وتيرة تفشي المرض وتضاعف أرقام الضحايا والمصابين.

كما أشرنا آنفًا، فإن الدولار الأمريكي يتمتع بدعم مزدوج من الطلب التحوطي والتحسن الملحوظ في البيانات الاقتصادية، فيما سيكون الذهب والين الياباني والفرنك السويسري هي أبرز المستفيدين من ازدياد حدة النفور من المخاطرة. على الجانب الآخر، فإن النفط والغاز الطبيعي، وكذلك العملات المرتبطة بالسلع مثل الدولار الكندي، وتلك التي يرتبط اقتصادها بشكل وثيق مع الصين، مثل الدولار الأسترالي والنيوزيلندي، ستظل هي أبرز الخاسرين حتى تتبين الأسواق الخط الأبيض من الخط الأسود لواحدة من أسوأ الأزمات الصحية في القرن الواحد والعشرين.

التعليقات