ارتباك طهران ماثل للعيان

ارتباك طهران ماثل للعيان
ارتباك طهران ماثل للعيان

عبد المجيد سويلم

لا يستطيع أحد أن ينكر على إيران وجود درجة معينة من المؤسساتية، ودرجة أخرى من رسوّ مراكز القرار كما كانت تسير عليه ووفقه العلاقات التي تربط بين مكونات النظام السياسي في هذه البلاد.

وإلى هذه الدرجة أو تلك، وما دامت الأمور دون سقف المرشد الأعلى فإن هناك ما يكفي من الدلائل والقرائن أن ثمة توافقا بين هذه المكونات على قدر معين من الفصل بين السلطات، وقدر آخر من الالتزام بمقتضيات هذا الفصل.

لكن الدولة الإيرانية تبدو في هذه الأيام في وضع الارتباك الشديد، وفي وضع لا يعكس أبداً ما كانت عليه مؤسسة الدولة في السنوات الأخيرة، والتي تميزت بقدر كبير من المرونة والفعالية في الإقليم وفي الإطار الدولي، وخصوصاً الذهاب الى الاتفاق التاريخي مع مجموعة 5+1.

بدايات الخلخلة ترافقت مع مجيء ترامب ومع تشديد العقوبات ثم مع الهبات الشعبية في كل من لبنان والعراق ثم في إيران نفسها.

أي أن إيران لم تصمد طويلا كدولة مؤسسات عند أول الاختبارات الكبيرة، او انها لم تتماسك كما كان يفترض عند درجة معينة من تطور مسار الضغوط الأميركية الاسرائيلية عليها.

حاولت إيران التمرد من خلال توجيه ردود أفعالها على "الملاحة" في الخليج، ثم الى السعودية من خلال ضرب خزانات "أرامكو"، ولم يكن "التحرش" بالولايات المتحدة إلا عملية مدروسة بحذر شديد، كما كان عليه الأمر عندما أسقطت إيران المسيّرة الفارغة وتجنبت الطائرة الأخرى، تماماً كما تصرف "حزب الله" عندما ضرب العربة الفارغة وترك جانبا العربات الممتلئة بالجنود.

لو وقفت الأمور عند هذا الحد لأمكن "تفهّم" صعوبة الأمور، ولأمكن تقدير هذا الحذر من زاوية عدم الرغبة، وعدم وجود مصلحة للنظام بالانزلاق إلى مواجهات عسكرية مع الولايات المتحدة.

بل ويمكن القول إن حذراً من هذا النوع، والحسابات الدقيقة هو دليل عقلانية هي أكثر من ضرورة في مثل هذه الظروف، لكن الأمر تجاوز مثل هذا الفهم.

الإعلام الإيراني هو الذي كشف عن عمق الأزمة الجديدة التي تمرّ بها إيران كدولة مؤسسات، وكنظام سياسي، وكحالة معينة من تضارب مصالح ونفوذ مكونات النظام السياسي.

بعد اغتيال سليماني صوّر الإعلام الإيراني ان الرد سيكون قاسيا جدا، وان هذا الرد قد تمت دراسته بصورة معمقة ومتكاملة، وان هناك اكثر من ثلاثة عشر خيارا أمام المؤسسة العسكرية وغيرها وغيرها من العمليات الكبيرة المرتقبة.

وصور الإعلام الإيراني الأمور وكأنها عملية انتقام ليس لها مثيل وان الثمن سيكون باهظاً.

بدا الإعلام الإيراني وكأنه في واد آخر بعيداً عن واد المؤسسة الأمنية التي كان ردها على اغتيال سليماني محسوبا بدقة وبمنتهى العقلانية.

تصوروا معي لو ان الإعلام الإيراني كان منسجماً مع الرد الإيراني، وحاول ان يوضح بأن الرد الإيراني سيكون في حدود ضربة "رمزية" للكرامة الوطنية، وان إيران ليس لديها أي نية للتصعيد العسكري، وليس لديها أي رغبة في إيقاع خسائر عسكرية في صفوف الأميركيين وان الرد الحقيقي هو الصمود، والعمل مع كل القوى لإقامة حلف سياسي لإجبار الولايات المتحدة على الخروج العسكري من منطقة الإقليم. لماذا لم يحصل هذا؟

الجواب لأن الدولة الإيرانية خاضعة لسطوة الحرس الثوري، ولأن مؤسسات القرار الإيراني هي شكلية بالمقارنة مع "قوة" القرار الذي يتمتع به الحرس الثوري، والذي يرتبط مباشرة بالمرشد الأعلى ولا يمر في الواقع بأي قنوات حقيقية لصنع القرار.

لا يوجد والحالة هذه تسمية على ما يسمى بالحرس الثوري سوى انه في الواقع تشكيل غير رسمي، او هو اقرب الى الميليشيا منه الى المؤسسة الرسمية. في مثل هذه الحالة يمكن ان نرى الإعلام يتحدث عن ردود وأفعال وسيناريوهات، ويمكن ان نلمس الهوة السحيقة التي تفصل مؤسسات القرار الرسمية، ومؤسسة القرار الوحيد المقررة والحاسمة.

وأما حادث إسقاط الطائرة المدنية فهو يعكس هذا الإرباك بصورة جلية اكثر من أي صورة أخرى. إذ كيف يسمح أصلا بالطيران المدني في منطقة أعمال عسكرية بهذا القدر من الأخطار؟

ومن هي الجهة التي قررت وهي تعرف مواعيد الضربة، بل وساعة الصفر لضرب القاعدة العسكرية في "عين الأسد"؟

وإذا كانت لا تعرف وليست بوارد كل ذلك فأين إذاً هي وحدة المؤسسة الإيرانية، وأين تكمن عمليات التنسيق والتكامل والخضوع لوحدة القرار؟ أليس هذا بالذات وبالضبط ما انطوى عليه الموقف الإيراني في التعامل مع سقوط الطائرة المدنية؟

من الإنكار التام لأي مسؤولية والنفي المطلق الى الاعتراف الكامل بفاصل زمني لا يتعدى عدة ساعات فقط؟!

بالأمس، السيد حسن نصر الله استدرك كل هذا الإرباك وحاول بصورة عقلانية وذكية أن يُبعد حالة "الإرباك" التي بدت ظاهرة للعيان عن ذهن الناس وذلك لما لها من تأثير سلبي كبير على صورة الواقع الإيراني. الأيام القادمة ستكشف عن مدى الخلل الذي ظهرت به المؤسسة الإيرانية كمؤسسة تعاني من الضعف الكبير.

وبالعودة إلى القرار الأميركي باغتيال الجنرال سليماني فإن هذا القرار لم يكن ليتخذ من قبل الرئيس ترامب لولا ان كل هذه الصورة كانت على طاولته قبل القرار بالاغتيال، ولولا ان الرئيس ترامب نفسه يراهن على هذا الواقع ليكون معول هدم في محاولة كسر المؤسسة الإيرانية.

تماسك الدولة ومؤسساتها في إيران ليس بخير أبداً. الإعلام الإيراني مغيّب عن الواقع، والمؤسسات الرسمية ليس لها صلاحيات نافذة، والمرشد الأعلى يحكم ويقرر ويتخذ من خلال دوائر فوق الدولة وفوق الرئيس وربما فوق البرلمان أيضاً، والرجوع إلى هذه المؤسسات يتم بعد القرار وليس قبله وهذا على ما يبدو أخطر ما في الأمر.

التعليقات