صُبّار أم أحمد

صُبّار أم أحمد
عيسى قراقع

هي جهاد صلاح، أم احمد، زوجة الأسير المحرر رزق صلاح الذي قضى 21 عاما في سجون الاحتلال، زرعت أكثر من عشرين نوعا من الصبار الفلسطيني في حديقة منزلها في قرية الخضر منذ ان اعتقل زوجها، فالصبر يتحمل العطش والجفاف وقسوة الاحتلال، والصبر يحمي الحلم والأرض والذاكرة، يأبى الزوال والنسيان كما الشعب الفلسطيني.

عندما كنت أزورها في البيت، تشرح لي أم احمد عن أشجار الصبار المتنوعة وعن أعمارها وأسماءها وتقول لي: للصبار لغة خاصة وقدرة على الكلام مع الناس والغيب، ومنه تعلمت الصبر والصمود وآمنت ان الصبر يعطي الثمار، وفي أعماقه بئر ماء لا ينضب، يبقى صامدا في مكانه مهما طال الزمن ومهما مرت سنوات المعاناة والجفاف والسجن والانتظار.

أم احمد تتابع مجرى الرياح بلون صبارها الجميل، تحرس أحلام الأسرى من خناجر حراسهم وسطوة الفاشية على هدى الأنبياء، تسقي زمن المؤبدات بماء الصبار العذب، الماء اخضر في ضلوعي كما الأغنيات اتركها على حائط هناك، أعلن أسماءهم كلما ذهبوا للنوم في كل مساء.

صبار أم احمد ينمو في بستانها، يلتف حول البيت، يحرسه، يطرد ياس الهواء عن أوراق الشجر، وكلما مر عام يفتح الصبار نافذة في السماء، انتفاضات، إضرابات عن الطعام، اعتصامات ومسيرات، رسائل إلى العالم والقادة والمؤسسات الدولية، نموت واقفين ولن نركع، لن نقايض الكرامة بالعبودية وبدم الشهداء، الصبار يفلق الصخر والعتمة والحجر.

صبار أم احمد يدل على مكان كل الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، يدل على ملامحهم وزنزاناتهم وأشواقهم ولهفاتهم، يدل على جذورهم في أرضهم وقراهم ومدنهم وشهادات ميلادهم، الصبار شاهد على استمرار الجريمة المنظمة وإرهاب دولة الاحتلال منذ النكبة حتى الان، شاهد على دمار قرانا ومنازلنا واعتقال تشريد أبنائنا، الصبار يرسم الحدود بين المكان والزمان، بين الموت والحياة، الصبار هو الحرية التي تحمي الجغرافيا الفلسطينية والإنسان، شوكه يقاتل السجان والعطش وسياسة الإذلال.

صبار أم احمد يعيش من لا شيء، ما يريده صبارها هو الحرية التي ترتبط بها، حرية الأسرى وعودتهم سالمين، تقول: حتى لو قطعوا ألواح الصبار، حتى لو خنقوه في العتمة والظلام، فانه يبني جذوره من جديد، ينمو ويعيش، مهما قمعوا الصبر والصابرين القابعين في السجون، مهما استخدموا من وسائل قمعية لشطب إنسانية الإنسان وتجريده من حقوقه وكرامته فانه يبقى صامدا كالصبار، في الحر والبرد، بين القضبان والأسلاك، له قدرة احتمال أسطورية أذهلت المحتلين والجلادين وأعداء السلام.

أمهات وزوجات عديدات توفين في حدائق الصبار، تركن صبرهن على الشوك وعلى ألواح الصبر وفي قاع التراب، من يكتب عن رحلة الزيارات من الفجر إلى الفجر؟ نساء يحملن بضع كلمات ولهفة لقاء، من يكتب عن تاريخ باصات الصليب الأحمر والتصاريح الممنوعة والمسموحة والبكاء الصامت وصرخة الدعاء؟ من يكتب عن الانتظار الطويل الذي سقط في منتصف الانتظار؟.

تاريخ الحركة الأسيرة مكتوب على اكواز الصبر وألواحه، تاريخ الحركة الأسيرة هو تاريخ النساء الصابرات، كل الرسائل والخربشات والتأملات القادمة من هناك تبدأ بالحنين المحروق المصلوب إلى النساء، الحرية مرتبطة بالأنثى، اسألوا الحديد والقصيدة وصبار أم احمد والسجناء.

شجرة صبار أخرى لعام اخر، ما أقسى العام الماضي تقول أم احمد، خمسة شهداء سقطوا في السجون، كانت مذبحة، لم ينقذهم احد في الدنيا ويستجيب للاستغاثة والحشرجة، لم يشرب العالم من ماء الصبار في حديقتي، لم يسمع حكاية صباري، حكاية كل فلسطيني، لم ير في ألواح الصبار أشكالا للمفاتيح والعودة، سيقانها لازالت مملوءة بالأمل والماء والثورة.

الأولاد كبروا، الأب في السجن، انا ألام والأب والمواجهة وإيقاع كل الفصول، ذهب الصيف وجاء الشتاء، شنت الحروب تلو الحروب، تفككت أمم ونهضت أخرى، أشجار الصبار يزداد عددها سنة وراء سنة، وكلما توحش الأعداء في حدائقها وجرفوا أرضها وثمارها، وكلما زادت مستوطناتهم واعتداءاتهم كلما أزهر الصبار أكثر ونادى على الشمس والقدس والغيمة القادمة.

زوجي العزيز أبا احمد: 21 عاما وانا ازرع الصبار، كبر صبري، اتكئ على صبري كي أراك، تمنيت ان تضع كل جروحك في جروحي كي أحملك، تمنيت ان تضع نصف قلبك في نصف قلبي كي يكتمل الحب والصبر ويتسع الفضاء، فما أجملك، يقول الصبار انك حاضر هنا، حاضر في البيت والنشيد، في المكان والزمان فسيحا لي ولك.

زوجي العزيز أبا احمد: كرهت باصات الصليب الأحمر، آلاف الزيارات، اقطع المسافات، ابحث عنك، ينقلونك من سجن إلى اخر، ربما تكون معزولا في زنزانة، ربما تكون مريضا تصارع الحمى، يعطيني شجر الصبار من عصارته لك الدواء، وعندما انظر كل صباح إلى الصبار أرى أثار عينيك فوق التراب، وكلما صليت الفجر يأتيني ملاك يحمل شارة نصر ومفتاح باب، حديقة الصبار تطفح بالندى، وابنك احمد يفتش عن حليب الرضاعة في اكواز الصبار، يبكي من بعيد على راحتيك.

زوجي العزيز أبا احمد: التوراتيون الإسرائيليون يحاولون قلع أشجار الصبار واستبداله بالصنوبر والسرو ليخفوك عني ولا يبقى شيئا ليدلني عليك، التوراتيون الإسرائيليون المسلحون بكل أدوات القمع والبطش والحقد يريدون ان يصير السجن منفى أو قبر، ان يخلو البيت من السلام والصبار، السجن يكبر الان ويدخل الروح والى طريق الأولاد إلى المدرسة، لا فرق بين السجن وباب المستوطنة، لا فرق بين رحيلك واغتيال الأحلام على الحواجز العسكرية.

ما أكثر الجنازات يا أبا احمد، ما أوسع هذا السجن، لكن الصبار يحدثني كل عام إنكم سوف تأتون بعد قليل، وان القاتل سوف يسقط في يقظة الضحية، الصبار الأرضي يردد اسمك كالزلازل، يقول: ان السجان سجان عدمي، السجان يزول لأنه بلا هوية.

أم احمد كتبت هذه الرسائل على ألواح الصبار، وصدقت نبوءة صبارها، أفرج عن رزق صلاح أبو احمد عام 2013 في الدفعة الثانية وفق الاتفاق الذي ابرمه الرئيس ابو مازن مع الجانب الاسرائيلي القاضي باطلاق سراح الاسرى الذين اعتقلوا قبل اتفاقية اوسلو، بدا ابو احمد حياته داخل ارض أحيطت بالمستوطنات الإسرائيلية، عمّرها وحرثها وضرب فاسه في ترابها وبين صخورها، زرعها بالصبار والزيتون والعنب ،حاول المستوطنون الحاقدون الاعتداء عليه وطرده من أرضه لكن أشواك الصبار أخرجت كل ما في داخلها من ملح وماء ورماد، وردت المعتدين وحمت الفأس والأرض والينابيع العتيقة.

على الواح الصبار الخضراء في قرية الخضر كتبت ام احمد القصيدة المتمردة للشاعر المرحوم توفيق زياد:

كاننا عشرون مستحيل

في اللد والرملة والجليل

هنا على صدوركم باقون كالجدار

وفي حلوقكم كقطعة الزجاج

كالصبار

وفي عيونكم زوبعة من نار

التعليقات