هل سنعود إلى مجتمع قبل مدني؟

هل سنعود إلى مجتمع قبل مدني؟
هل سنعود إلى مجتمع قبل مدني؟

مهند عبد الحميد

ما حدث في بلادنا بالأسابيع والأيام الخوالي لا يسر صديقاً ولا يغيظ عدواً، حيث يزداد الحال سوءاً، بالحصار والضغوط والعقوبات والقمع والتدخلات الاحتلالية والخارجية، وبتداعيات التآكل والتفكك والانفلات التعصبي الداخلي. حربان خارجية وداخلية تصنعان نكبة فلسطينية جديدة قد تكون أشد ضراوة من سابقتها، إذا لم يتم التعامل معهما بشجاعة وحكمة ومسؤولية، مع أن أجزاءً من شعب الشتات ذاقت مرارة نكبة جديدة، لم تأخذ حقها لدى المؤسسة الرسمية والفصائلية ولا لدى نخب الثقافة والأكاديميا للآسف الشديد.

وإذا كانت الحرب من الخارج متوقعة وواضحة الأهداف، فإن الحرب الداخلية جاءت صادمة ومؤلمة رغم كونها ثمرة مرة للتحولات الرجعية المسكوت عنها والتي جرت تغذيتها والتماهي والتعايش معها. موضوع النقاش سيكون في هذا المقال الوضع الداخلي.

دعونا نستعرض شريطاً مختصراً للأحداث في غضون شهر. تعرضت دكتورة في جامعة النجاح لترهيب وتهديد خارج الأصول والنظام وأدب الاختلاف، لمجرد نشرها على صفحة الفيسبوك عريضة موقعة من مئات الشخصيات الأكاديمية والثقافية والفنية والسياسية تطالب الحكومة بإصلاح التعليم. على خلفية العريضة المنشورة، تحولت مواقع مسؤولين في التربية والتعليم إلى منبر للتحريض وكيل الاتهامات جزافاً، وقد وصل الأمر إلى تهديد المسؤولين الموجهة لهم العريضة باستخدام المساجد لمنع أي تغيير أو تعديل! في حالة استجابتهم لمطالب العريضة.. لاحظوا إلى أي مدى ينتهك النظام والقانون والنظام الداخلي لتنظيم «فتح» الذي ينتمي إليه المسؤولون. بعد ذلك بقليل مُنعت مسرحية «انهيدوانا» للفنانة عشتار أثناء عرضها في مسرح جامعة النجاح، جاء المنع وتبريره مناقضاً لدور الجامعة ورسالتها العلمية والتنويرية. ترافق المنع في نابلس مع منع في غزة «بطله» في الجهة الأخرى سلطة «حماس» التي منعت فرقة «أصايل للغناء التراثي والوطني» من تقديم عروضها ضمن نشاط فني لمؤسسة القطان في غزة. المنع جاء بذريعة أن الفرقة مختلطة تضم شباباً وشابات، وقد جرى استبدالها بفرقة إنشاد ديني. فرقة أصايل كما قال صديقي من غزة تسعى بعد المنع المتكرر والتضييق، للهجرة خارج القطاع، كما فعل عشرات الفنانين والفنانات والإعلاميين والإعلاميات الذين حرموا من حقهم في التعبير بالفن ووسائل الإعلام. وتواصل مسلسل المنع والترهيب بمنع مسرحية عشتار من العرض في مسرح الحكواتي داخل مدينة القدس المحتلة، تيمناً بمنع جامعة النجاح للمسرحية. ثم جاء التصعيد الأكبر، بعقد مؤتمر عشائر الخليل وبيانه الناري ضد اتفاقية إزالة كل أشكال التمييز بحق النساء (سيداو). البيان: يتبرأ أصحابه من الاتفاقية «على السلطة الانسحاب منه» بلغة الأمر. ويرفض تحديد سن الزواج بـ 18 عاماً، ويطالب بإغلاق جميع المؤسسات النسوية، وبإنهاء عقود إيجارها، واعتبار كل من يؤجرهم شريكاً لهن في الجريمة! ويحذر القضاء من التعامل مع رفع سن الزواج، ويحذر وسائل الإعلام من نشر أخبار المنظمات النسوية. كما نلاحظ إطلاق أوامر بحل منظمات نسوية وتحذيرات وتهديد ووعيد وإلصاق تهمة الجريمة دون دليل أو محاكمة.

التعدد الثقافي والديني والسياسي، والحق في الاختلاف والتعبير والنقد، واحترام الرأي الآخر، مبادئ مقرة في الأنظمة الفلسطينية الرسمية. ومن المفترض أن تشكل ناظماً في العلاقات الداخلية. ومن المفترض أيضاً أن يتعرض المنتهكون لها للمساءلة والمحاسبة والعقاب. ومن المعروف أنه ضمن المعادلة الديمقراطية ومعاييرها يستطيع من يحظى بثقة أكثرية الشعب أن ينتقل إلى مركز القرار ويتولى المسؤولية وتغيير السياسات بأكثرية الثلثين. ولكن في غياب الديمقراطية ستحكمنا شريعة الغاب وننتقل من حالة شعب يمتلك حق تقرير المصير وتحقيق أهدافه، وفي مقدمتها التحرر من الاحتلال، إلى قبائل وفرق متناحرة تعود بنا القهقرى إلى محاكم تفتيش قروسطية.

ثمة قوى واتجاهات سياسية ودينية تستبدل الناظم الديمقراطي «بإفتاء أو تفسير ديني» خاص بها وبمدرستها الدينية، وتعتبر نفسها مفوضة باسم الدين ويحق لها شطب وإلغاء وتكفير وتحريم وتخوين الآخر المختلف، سواء كان مواطناً أو منظمة أو حتى سلطة سياسية وأعضائها ورئيسها. هذه القوى تحاول نقلنا من حالة صراع ديمقراطي وطني داخلي، إلى صراع ديني تدميري سيقضي على كل تطور وإنجاز، متجاهلة أولاً: الانتماء إلى منظومة سياسية اجتماعية مدنية لها أنظمتها ومؤسساتها والتزاماتها كجزء من هذا الواقع، محاولة استبدال هذه المنظومة بسلطة ما قبل مدنية تؤبد التأخر والفشل. وتتجاهل هذه الاتجاهات أنه في إطار الدين توجد مدارس دينية فكرية متعددة كالمدرسة العقلانية والمتنورة والمنفتحة على التطور والعلم والحضارة الإنسانية التي انتمت أكثرية الشعب الفلسطيني لها. وليس من حق المنتمين للمدرسة الدينية المتزمتة، فرض مواقفهم وتفسيراتهم التي جربت على مدى عقود وأنتجت «القاعدة» و»داعش» والتفكك المجتمعي والعزلة والانغلاق والتخلف عن ركب الحضارة. من حقهم المناقشة وحق الإقناع.

المؤسف وجود اتجاه داخل حركة «فتح» ومؤسسة التعليم والأوقاف ونقابة المحامين، يحذو حذو تلك القوى المتزمتة في تبنيه التزمّت متجاهلاً أيضاً المنظومة وقوانينها ومعاييرها، ومفوضاً نفسه ناطقاً ومدافعاً عن الدين. فبيان قاضي القضاة يدعو إلى إعادة قراءة اتفاقية سيداو ورفض كل ما يتعارض مع الشريعة متساوقاً بذلك مع الابتزاز والتزمّت. ولا شك أن هذا الاختراق أحدث ويحدث خلخلة في بنية المنظومة السياسية ومكانتها الاعتبارية والقانونية.

من على قاعدة الالتزام بالمعايير ورفض استخدام السلاح الديني في التحريض والترهيب والتكفير وشيطنة المختلف وفي الإخضاع وإقامة القانون باليد. نعود إلى نقاش الموقف من سيداو. الاتفاقية المذكورة وقعت عليها 189 دولة من أصل 197 دولة، ووقعت عليها 54 دولة من منظمة التعاون الإسلامي من أصل 57 دولة التي تمثل 1.6 مليار مسلم. ووقعت عليها 20 دولة عربية من أصل 22 دولة، الدولتان هما السودان والتي أعلنت مؤخراً عن عزمها التوقيع على الاتفاقية، وتبقى فقط دولة الصومال ممتنعة. المتزمتون الأفاضل يريدون انفصال فلسطين عن العالم أشقاء وأصدقاء، يريدون لنا الذهاب إلى عالم «طالبان» و»القاعدة» و»داعش» و»النصرة» و»بوكو حرام».

«سيداو» تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي التعليم والتشريع والعمل. أين المشكلة، والنظام الأساسي ووثيقة إعلان الاستقلال تدعو إلى المساواة وعدم التمييز على أساس النوع الاجتماعي. منح المرأة حقاً متساوياً لحق الرجل في ما يتعلق بإعطاء جنسية لأبنائهن، وحقوقاً متساوية في عقد الزواج وحضانة الأطفال والحق في التصويت الانتخابي. لا خلاف في الجوهر الذي هو العدالة، أما في التفاصيل فقد قدمت دول عديدة ملاحظات وتحفظات وقالت: إنها مغايرة لثقافتها. وحسناً فعلت الأربع منظمات حقوقية ونسوية عندما دعت إلى حوار مجتمعي يضم جميع الأطراف تتعلق بمواءمة التشريعات الوطنية مع مضمون الاتفاقية.

التعليقات