المقاومة الفلسطينية بين مُراكمة القوة ومُشاغلة العدو

المقاومة الفلسطينية بين مُراكمة القوة ومُشاغلة العدو
المقاومة الفلسطينية بين مُراكمة القوة ومُشاغلة العدو

بقلم د. وليد القططي 

الساحة الفلسطينية ولاّدة بالمصطلحات الجديدة، في إطار الصراع المتواصل مع الكيان الصهيوني، وفي سياق النقاش المستمر بين الحركات السياسية، ومن هذه المصطلحات الجديدة أو المتجددة مصطلحي: مُراكمة القوة، ومُشاغلة العدو، وهما مصطلحان تكررا في الأسابيع الأخيرة على لسان بعض قادة المقاومة الفلسطينية، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، ومعركة صيحة الفجر بين المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها سرايا القدس، وبين جيش العدوان والإرهاب الاسرائيلي . وفي ظلال هذين المصطلحين0 مُراكمة القوة ومُشاغلة العدو- من المفيد إلقاء الضوء على دلالتهما ومضمونهما، ثم معرفة مدى تناقضهما أو تكاملهما في إطار فهم استراتيجيات حركات التحرر الوطنية، ودراسة إمكانية توظيفهما لخدمة هدف الثورة الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، وهذا كله يتم دون نسيان تعقيد الوضع الفلسطيني المختلف في ساحات قطاع غزة والضفة الغربية والداخل المحتل والخارج. 

مفهوم (مُراكمة القوة) كاستراتيجية عسكرية لحركة مقاومة وتحرر وطني تردد على لسان بعض قادة المقاومة الفلسطينية بعبارات متشابهة منها: نبني القوة ونراكمها، المقاومة تعمل على مراكمة القوة، سنواصل درب إعداد القوة ومراكمتها، المقاومة ستواصل استراتيجية مراكمة القوة، المقاومة ستعمل على  أربع جبهات تبدأ بمراكمة القوة... وجميعها تعني كلغة ومصطلح: حشد وتجميع وتكديس القوة العسكرية، سواء كانت عتاداً عسكرياً وأنظمة تسلح من ناحيتي الكم والكيف، أو كانت تجنيد المقاتلين وتدريبهم وتجهيزهم للقتال في المعركة الحاسمة، أو غيرهما من عناصر القوة العسكرية. والهدف من مراكمة القوة كما جاء على لسان نفس القادة هو: الدفاع عن غزة والضفة والقدس وتحريرهما، لاستكمال عدة التحرير، إعداد العدة لمشروع التحرير والعودة، استعداداً لمعركة التحرير، في سبيل تحرير القدس... وجميعها تعني أن الهدف من مراكمة القوة هو الاعداد لمعركة حاسمة يتم فيها تحرير فلسطين والعودة إليها وإنجاز الاستقلال الوطني. 

مفهوم (مُشاغلة العدو) كاستراتيجية عسكرية لحركة مقاومة وتحرر وطني تردد على لسان بعض قادة المقاومة  الفلسطينية بعبارات مشابهة منها: عدم التخلّي عن مشاغلة العدو، المقاومة تريد تثبيت معادلة مشاغلة العدو، من الضروري الاستمرار في مشاغلة العدو إلى حين المنازلة الكبرى، إن دور المجاهدين في فلسطين هو إحياء فريضة الجهاد ضد العدو ومشاغلته واستنزاف طاقاته... وجميعها تعني استمرار إشغال العدو بالمقاومة، ومواصلة مقاومة الاحتلال بدون فترات هدوء طويلة الأمد تسمح للعدو بالاستقرار والاحساس بالأمن، وعدم دفع ثمن جرائمه وعدوانه واحتلاله. والهدف من مُشاغلة العدو كما جاء على لسان نفس القادة هو: إحياء فريضة الجهاد، وإبقاء جذوة الجهاد مشتعلة، ومواصلة عمليات المقاومة، والحفاظ على القضية الفلسطينية حية، واستنزاف طاقات العدو البشرية والمادية، وزعزعة أمن الكيان واستقراره، وتعميق مأزق الكيان الأمني والوجودي، وضرب المشروع الصهيوني في جوهره ( الأمن والاستيطان) وجميعها تعني أن الهدف من مشاغلة العدو هو استمرار المقاومة حتى التحرير الشامل. 

مراكمة القوة ومشاغلة العدو في ضوء القراءة السابقة، مفهومان غير متناقضين واستراتيجيتان غير متضاربتين، بل هما إلى التكامل أقرب، وإلى التآزر أدنى، إلاّ إذا اعتبرنا مشاغلة العدو بالمقاومة المستمرة مُعيقة لمراكمة القوة بالمقاومة الكامنة، أو اعتبرنا عمليات المقاومة ضد الاحتلال ستُعطي العدو ذريعة لتدمير ما تراكم من قوة عسكرية بيد المقاومة، أو اعتبرنا مشاغلة العدو استنزاف للشعب والمقاومة وليس للكيان بجيشه ومستوطنيه، أو اعتبرنا مشاغلة العدو مُخربة لمشروع سياسي يخدم المشروع الوطني أو أي مشروع آخر... واذا ابتعدنا عن وجهات النظر السابقة واقتربنا من وجهات النظر التكاملية بين المفهومين والاستراتيجيتين نجد العكس هو الصحيح، فمشاغلة العدو أهم وسائل مراكمة القوة، فاستمرار المقاومة الشاملة، ليس فقط في قطاع غزة، بل في كل فلسطين المُحتلة عام 1948 والضفة الغربية، هي أهم أدوات ووسائل بناء القوة وبمفهومها الشامل: قوة الشعب الفلسطيني وصموده فوق أرضه، وقوة المقاومة بمراكمة خبرات المقاتلين، وقوة الأمة بزيادة دعمها للشعب والمقاومة، وبناء القوة ومراكمتها من خلال المقاومة تتم بمنع استقرار الكيان وزعزعة أمنه واستنزاف قوته، كما من المفيد التذكير أن ما تراكم من قوة للمقاومة في قطاع غزة قد تم باستمرار مشاغلة العدو ومقاومته، والسؤال المطروح هو ما الذي يضمن عدم قيام العدو بتدمير امكانيات المقاومة إذا ما خلدنا إلى السكون؟! والسؤال الأهم هل سيقبل العدو بهدنة طويلة الأجل دون المطالبة بنزع سلاح المقاومة؟! 

مراكمة القوة بمفهوم التناقض مع مشاغلة العدو، وبالتوازي والتزامن مع تأجيل المقاومة، لا تبعد كثيراً عن مفهوم (الاعداد والتربية)، وهو المنهجية التي كانت تتعامل بها الحركة الإسلامية ما بين النكبة الفلسطينية والانتفاضة الأولى، على مدار أربعة عقود من تاريخ الصراع، برز خلالها دور حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية في الكفاح المسلح، لا سيما بعد إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، هذا الغياب الطويل عن فلسطين والمقاومة تم تبريره بنظرية مرحلة الاستضعاف التي تتطلب إعداد وتربية للفرد والجماعة، وتقتضي تنقية وتطهير الجماعة والمجتمع، والبعض كان ولا زال ينتظر الخليفة المُخلّص... حتى خرج من بين أظهرهم، وليس بمثلهم، رجلٌ يسعى، يُقال له أبو ابراهيم، فنادى بمفهوم التربية من خلال المواجهة، مستمداً رؤيته من الآية الآية الكريمة " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" فالجهاد والهداية متلازمان ومقترنان، متجاوزاً مفهوم الاعداد والتربية السكوني، ومؤكداً أن الاعداد والتربية تأتيان من خلال المواجهة مع الباطل، وفي سياق العمل الجهادي ضد الاحتلال، فالجهاد تربية بحد ذاته، والتربية شرط أساسي لنجاح الجهاد، وبذلك يتحوّل الجهاد والمقاومة (مشاغلة العدو) إلى قوة يتم مراكمتها لإنجاز النصر.

مراكمة القوة قريب من مفهوم ( التوازن الاستراتيجي) الذي اتخذته أحد الدول العربية سياسة واستراتيجية لنوع آخر من مراكمة القوة، مع الفارق أن مراكمة القوة قد تعني الوصول للتوازن الاستراتيجي، وربما لا تصل إليه أو تتجاوزه، والمقصود بالتوازن  الاستراتيجي العسكري- وليس الشامل- هو التعادل والتكافؤ في القدرات العسكرية بين تلك الدولة والكيان الصهيوني، ويشمل المساواة الكمية والنوعية للجيشين من كافة الجوانب. وكان مبرر عدم الوصول للتوازن الاستراتيجي على مدار عشرات السنين هو المبرر لعدم تحرير الأرض ورد العدوان المتكرر، وهذه الدولة لم تستطع الوصول إلى التوازن الاستراتيجي بعد ردحٍ طويل من الدهر، فكيف يُمكن لحركة مقاومة أن تصل إليه على أرض صغيرة مُحاصرة، ومعاقبة، وبإمكانيات عسكرية محددة مقارنة بإمكانيات العدو، وخلل هائل في ميزان القوة العسكرية. وأقصى ما يُمكن الوصول إليه- وقد وصلنا إليه فعلاً- هو ايجاد حالة من توازن الردع النسبي المحدود، وايجاد قواعد اشتباك فرضتها المقاومة تستطيع من خلالها الرد على العدوان، ومعاقبة العدو على جرائمه، ورفع كلفة الاحتلال والحصار، وتهديد جبهة الكيان الداخلية. وهذا الانجاز المحدود اُنتزع من العدو بالمشاغلة التي راكمت القوة باسلوب حرب العصابات غير التقليدية، أو خليط من الحرب النظامية وغير النظامية. 

مراكمة القوة في سياق استراتيجيات حركات التحرر الوطنية، بحاجة إلى توسيع دائرة الرؤية، ونظرة أكثر شمولية. تتجاوز جغرافية وخصوصية المقاومة في قطاع غزة لتمتد إلى كل فلسطين التاريخية لا سيما الضفة الغربية، فإذا كانت سياسة مُراكمة القوة تصلح فرضاً على  قطاع غزة، فبالتأكيد لا تصلح بنفس الآليات على الضفة الغربية‘ إلاّ إذا عدنا إلى اعتبار مشاغلة العدو بالمقاومة المستمرة هي أهم طريقة لمراكمة القوة. وتتجاوز القوة العسكرية لتشمل كل أنواع القوة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية وغيرها لتصب جميعها في دعم صمود الشعب الفلسطيني داخل وطنه باعتبار الصمود ركيزة أساسية للمقاومة، وبالتالي تصب في دعم المقاومة الشاملة وفي مقدمتها المقاومة المسلحة. وتتجاوز القوة الفلسطينية إلى مراكمة القوة العربية والاسلامية الداعمة للشعب الفلسطيني وقضيته ومقاومته، خاصة الدول والقوى التي تتبنى فلسطين القضية والمقاومة، فهي جزء أساسي من مراكمة القوة استعداداً لحرب التحرير  وهي نفس الرؤية التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية في ميثاقها الوطني باعتبار مسؤولية تحرير فلسطين واجب قومي عربي إلى جانب اعتباره واجب وطني فلسطيني" وهي رؤية حركتي حماس والجهاد لتحرير فلسطين كواجب وطني فلسطيني وقومي عربي وديني وإسلامي. 

مُراكمة القوة تُناسب دول مستقلة أو مجموعة دول مُتحالفة في مواجهة دول أخرى أو مجموعة دول متحالفة أخرى، ولكنها لا تناسب حركات مقاومة وتحرر وطني تحت الاحتلال والحصار، والذي يناسبها أكثر هو مشاغلة العدو بأساليب حرب العصابات، وفي الحالة الفلسطينية الخاصة في قطاع غزة بإطلاق الصواريخ كسلاح ردع للعدوان، وضرب للكيان الصهيوني ومشروعه الاستيطاني في أمنه واستقراره ، واحداث التكامل بين المُراكمة والمُشاغلة كنهج ثابت يعني استمرار المواجهة مع العدو الصهيوني، واستنزاف طاقاته وقدراته، وزعزعة أمنه واستقراره لإجباره على الرحيل عن أرضنا، وصولاً إلى التحرير الكامل لفلسطين، بمجهود كل الأمة العربية والاسلامية وطليعتها الشعب الفلسطيني. 

وتأكيداً لذلك كتب الشهيد فتحي الشقاقي "الجهاد يجب أن يستمر بلا توقف لإضعاف العدو... نحن نرى في جهادنا دعوة لاستنهاض الأمة كي تنهض وتتوحد وتتوجه إلى بيت المقدس... ليس أمامنا من خيار سوى خيار وحيد ألا وهو حشد طاقات الشعب الفلسطيني، ورص الصفوف واستمرار الجهاد والمقاومة واستنهاض الامة العربية والاسلامية من حول قضيتها المركزية والمقدسة. عندما نقول ان الحل هو استمرار الجهاد ندرك ان تحرير فلسطين مسألة صعبة ولن تتم غداً أو بعد غد، هذه رحلة طويلة، لكننا من خلال قناعتنا بأن الأمة العربية والاسلامية قادرة على مواجهة الهجمة وتحقيق الانتصار فيما لو انتظمت مفردات القوة الموجودة بالفعل في سياق فعل جاد، في هذه الحالة ستكون الامة قادرة على تحقيق النصر. 

التعليقات