لغتنا الجميلة (2 من 2)

لغتنا الجميلة (2 من 2)
عبد الغني سلامة

تُعد اللغة من الظواهر السلوكيّة الأقدم في تاريخ البشر، والتي ميزتهم عن سائر الكائنات، وتعرف بأنها نسقٌ من الرموز والإشارات، وأداة يعبّر بها الفرد عن مشاعره وأحاسيسه، وهي نظامٌ يحقّقُ وظيفة المعرفة، والتواصل، والتعبير، والتفاعل، والتفكير، والتخيل، والاستكشاف.. ولكل قوم وحضارة لغة خاصة.. وهي مرآة الفكر واداته، وثمرة العقل ونتاجه، وهي معرض الثقافات الإنسانية وحضاراتها.

لم تظهر الكتابة إلا بعد اللغة المنطوقة بفترة طويلة، فالحضارات القديمة لم تستخدم الكتابة في عصورها المبكرة. والعربية تأخرت حتى تحولت إلى لغة مكتوبة، فقد ظلت لغة شفهية، وحين احتاجت إلى التدوين لجأت إلى استعارة الأبجدية النبطية، ثم تطوّرت عن الكتابة النبطية التي كانت سائدة في الشمال، وامتزجت فيما بعد مع الخط المسند، الذي كان سائداً في الجنوب.. ثم تطورت إلى الخط الحجازي ثم الكوفي.. وأقدم نص عربي عثر عليه يعود إلى سنة 328م (قبر الملك امرئ القيس).
قبل التنقيط كانت العربية تضم 12 رسما للحروف الكتابية، حيث كان يصعب تمييز س عن ش، أو ر عن ز، وكان الحرف يُعرف من سياق الجملة.. بعد التنقيط صار من الممكن التمييز بين الحروف المتشابهة رسما، وصارت اللغة تضم 28 حرفا مكتوبا. منها حرف الضاد الذي تنفرد به عن سائر لغات العالم.
تصنف العربية ضمن عائلة اللغات السامية (الأفرو- آسيوية)، التي تشعبت إلى شرقية (الأكادية والبابلية والأشورية والكلدانية)، وغربية (الآرامية والكنعانية والفينيقية والعبرية والأمهرية..).. وقد وجدت كلمة عرب في التراث اليوناني والفارسي، وكان يقصد بها أعراب الجزيرة العربية، ولم تكن هناك لغة عربية موحدة، لكن جميع اللغات التي تكلمت بها القبائل والأقوام التي كانت تسكن الجزيرة العربية سميت لغات عربية، منها العربية الجنوبية القديمة، مثل: المعينية، والسبأية، والحميرية (لغة حِميَر)، وكانت تكتب بالخط المسند. واللغات الشمالية القديمة، مثل الثمودية، واللحيانية (لغة مضر)، وكانت تكتب بالخط النبطي. وتلك اللغات تآلفت تدريجيا حتى توحدت بنزول القرآن، باللغة الفصحى. أما الشعر الجاهلي فيعود إلى قرن ونصف قبل الإسلام.

يجمع أغلب الإخباريين العرب، على اعتبار لغة قريش اللغة الفصحى، وأن أهل قريش «هم أفصح العرب لساناً وأصفاهم لغة»، بينما يرى مستشرقون كبار أن الفروق بين اللهجات في الحجاز ونجد والبادية الشمالية لم تكن كبيرة، وأن اللغة الفصيحة شملت جميع اللهجات في تلك المناطق (تيودور نولدكه).
أما المستشرق بلاشير فيقول في أصل الفصحى، إنها تكونت على أساس ما قام به علماء اللغة العرب، في غربلة اللهجات، وضبط قواعدها. وصولا إلى الفصحى الحالية، التي اعتمدت على لغة الشعر ولغة القرآن.
أما «جواد العلي»، فيقول: «القول بأن لغة القرآن هي لغة قريش، وإن لغة قريش هي العربية الفصحى، وإنها لغة الأدب عند الجاهليين، قولٌ بعيد عن الصواب».
ولا ريب أن القرآن وحّد لغات العرب، قبل أن يوحدهم سياسيا وثقافيا، فالقرآن أول كتاب في التاريخ يُكتب بالعربية، وبالتالي هو أم «العربية»، كما هو نتاجها.. وهو الذي حفظ العربية حتى يومنا هذا، كما أنه ضمان بقائها، لكونه المَعين، والمنهل، والمرجع الأصلي، الذي لا يتبدل.
لم تكن اللغة العربية عامل توحيد للشعوب العربية وحسب، بل إنها أثرت في تكوين الشخصية العربية (سيكولوجيا، وسلوكيا)، بسبب طبيعتها، ولهذا من بين أسباب اختلاف العرب عن غيرهم طبيعة اللغة وخصائصها.

تضم اللغة العربية نحو 12 مليون مفردة، (جواد العلي، «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام») وهي بذلك، ربما تكون أغزر لغة في العالم بعدد مفرداتها، لسببين، أولاً: للثراء الهائل بجذور الكلمات العربية التي يتم الاشتقاق عنها، تضم العربية ستة عشر ألف جذر لغوي (اللاتينية تضم سبعمائة جذر، والساكسونية ألفي جذر). وثانياً: لما يسمّى الترادف الناتج عن تعدد لغات القبائل.
تتميز العربية بالفصاحة، والقدرة على الإيجاز، ودقة التعبير، والمجاز، ومرونة الاشتقاق، والترادف، والإعراب (لإعطاء الدلالات على المعاني).. وتتميز أصوات العربية بجمال وقعها على الأسماع وعذوبة جرسها في الآذان. كما يمتاز الخط العربي بالتنوع والجمال المدهش.

تطورت العربية ونمت من حيث اللفظ، فاتسعت مادتها وكثرت مفرداتها بالاشتقاق والتعريب والقياس والتوليد، ولكن، هل حقا استوعبت كل ما تطلبته شؤون الحضارة والعولمة؟ أم إنها في طريق تطورها تأثرت باللغات الأخرى؟ فاقتحمتها العديد من المفردات الأعجمية والأجنبية.

اليوم، تحتل العربية المرتبة الرابعة عالميا من حيث عدد الناطقين بها، بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية، لكن الإنجليزية هي لغة العلم والتكنولوجيا والعولمة والتواصل بين مختلف الشعوب.. كانت الآرامية في مرحلة ما لغة العصر، وكذلك كانت اليونانية، واللاتينية.. أما العربية فكانت في العهد الأندلسي لغة العلم العالمية، لكنها لم تعد كذلك الآن.. بل باتت تتهددها مخاطر الضياع، والجمود، والتأخر عن مواكبة التطورات، خاصة في عالم التكنولوجيا والاتصالات. وحتى ننقذها، ونعيد إليها ألقها وحيويتها لن تنفعنا بكائيات حافظ إبراهيم (أنا البحر في أحشائه الدر كامن، فهل سألوا الغواص عن صدفاتي.. )، بل يتطلب الأمر عقلية مرنة ومنفتحة من مجامع اللغة العربية المنتشرة في أكثر من عاصمة عربية؛ «فاللغة العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها، كما كان القدماء يملكونها». (طه حسين).

وحتى نخلّص العربية من آفة العنصرية والاستعلاء القومي، يجب أن نكفَّ عن القول إن العربية لغة شريفة (كل اللغات شريفة)، أو أنها لغة مقدسة (لا توجد لغة مقدسة وأخرى مدنسة)، أو أنها أصل اللغات (هذه مغالطة تاريخية)، أو أنها لغة أهل الجنة (ماذا ستكون لغة أهل النار!؟)، أو أنها إعجازية (كل اللغات صنيعة البشر).. أو إنها تنفرد بقدرتها على الاشتقاق والترادف (أسرفت اللغات الأوروبية في توليد الكلمات عن طريق النحت، فإذا كانت لدينا نافذة على الاشتقاق، فللآخرين أبواب وشبابيك، كما قال خبير اللغة العربية عارف حجاوي).

كل قوم يعتزون بلغتهم، فاللغة في عين أهلها كالطفل في عين أمه، وهذا شيء طبيعي، وحق مشروع.. ونحن من حقنا أن نعتز ونفتخر بلغتنا.. فهي حقاً لغة جميلة ومدهشة.. ولكن أن نفتخر دون استعلاء، ودون أن نقع في وهم المغالطات التاريخية، والعلمية.

التعليقات