"قطار السلام" إذ يخرج عن سكته؟!

"قطار السلام" إذ يخرج عن سكته؟!
كتب عريب الرنتاوي

سيل "الهدايا" الأمريكية لحكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو، لم يتوقف منذ تولي "إدارة ترامب" لمقاليد الحكم في الولايات المتحدة، حتى أنه بات بالإمكان القول اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بأنه "لا سياسية أمريكية حيال الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، هناك سياسة إسرائيلية، تجري ترجمتها إلى الإنجليزية، وتقرأ على الملأ بلكنة أمريكية مميزة".

بدأت القصة بالتنكر لـ"الحل الدولتين"، وتفادي أي إشارة إلى هدف عملية السلام هو إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومستقلة، تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل ... ومرت بفتح ملف اللاجئين ووكالة "الأونروا"، حيث أوقفت إدارة ترامب دعمها للوكالة بالكامل، وحثت دولاً أخرى على أن تحذوا حذوها... ثم، عمدت إلى إعادة تعريف "اللاجئ" بحصره في الجيل الأول للنكبة الفلسطينية، والذي لم يبق منه سوى 30-40 ألف لاجئ، متجاهلة مصائر ستة ملايين من أبنائهم وأحفادهم ... ولم يتوقف الأمر عند الاعتراف بـ"القدس الموحدة" عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، بل تخطاه إلى الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل ... واليوم، يخرج الوزير بومبيو بموقف "يشرعن" وجود أكثر من 300 مستوطنة في الضفة الغربية، يسكنها قرابة الـ "700 ألف" مستوطن.

"هدايا ثمينة" قُدمت مجاناً، ومن دون قيد أو شرط، لائتلاف اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، ومع ذلك، لا يبدو أن الشهية الإسرائيلية ستكتفي بهذا القدر من "السخاء" الأمريكي، فصبيحة اليوم التالي لتصريحات بومبيو، شرع نتنياهو وبعض أركان الليكود في العمل لتمرير قانون في الكنيست يقضي بضم منطقة الأغوار الأردنية وشمالي البحر الميت إلى السيادة الإسرائيلية، فتكون إسرائيل بعد تمرير هذا القانون، قد استولت رسمياً على نصف مساحة الضفة الغربية، وفرضت "سيادتها" عليها.

لم تبد إدارة الرئيس ترامب اهتماماً بالانتقادات الدولية، حتى تلك الصادرة عن حلفائها العرب والأوروبيين، وبعض الإسرائيليين أنفسهم، ولم تأبه لكون "هداياها المسمومة لعملية السلام" تتعارض مع القانون الدولي ومرجعيات عملية مدريد – أوسلو ... بل أنها ضربت عرض الحائط بإرث تاريخي يمتد لنصف قرن من السياسات الأمريكية التي تعاقبت على تبنيها وتطويرها، مختلف الإدارات الأمريكية، جمهورية كانت أم ديمقراطية... لقد أحدثت الإدارة استدارة كاملة في مواقفها من هذه القضية، وتلكم سابقة غير معهودة.

"لحظة ترامب"

تُسابق حكومة نتنياهو الزمن، لتوظيف واستغلال "لحظة ترامب" في السياسة الأمريكية، لتحقيق كل أو جُل ما كانت تصبو له أو تحلم به ... هذه لحظة غير مسبوقة، وقد لا تتكرر في المستقبل المنظور، وفقاً لنصيحة جرينبلات – فريدمان لليمين الإسرائيلي حكومة وائتلافاً ... وهو ما حصل فعلاً، إذ لم تبق من وسيلة لتدمير "حل الدولتين" وتقطيع السبل أمام قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، إلا وانتهجتها حكومة نتنياهو في السنوات الثلاث الأخيرة، ودائماً بدعم ورعاية من واشنطن، والفريق الرئاسي المولج بعملية السلام ... لقد انتهى هذا الخيار الذي حظي بإجماع دولي نادر، وبات وراء ظهورنا جميعاً، من دون أن يتبلور في المقابل، أي إجماع دولي على أي خيار آخر، وما يُبقي الفلسطينيين نهباً للمجهول وفقدان الأمل بعدالة دولية تنهي معاناتهم مع أطول وآخر احتلال على وجه الكرة الأرضية.

وساعد إسرائيل والولايات المتحدة على تمرير هذه "الهدايا المفخخة" بأقل قدر من الخسائر، أن بعض العرب، وتحديداً من دول "اللحظة الخليجية في التاريخ العربي"، اعتقد أن بمقدوره الرهان على "لحظة ترامب" في البيت الأبيض، وتوظيفها واستغلالها، ولكن في مواجهة إيران وحلفائها هذه المرة ... لقد كانوا على استعداد لابتلاع كل هذه "الهدايا المسمومة"، نظير دعم أمريكي، وقيادة أمريكية لحرب ضد إيران لا تبقي ولا تذر ... لكن من أسف، لم يبق في ذاكرة المنطقة وشعوبها، سوى "لحظة ترامب" المواتية للإسرائيليين، ويمينهم المتطرف على وجه الخصوص، فيما "لحظة ترامب" المواتية للخليج ودوله وزعاماته الجديدة، تبددت بأسرع مما ظنوا وظننا، ليحل محلها إحساس عميق الخذلان والتخلي.

الأسئلة الساخنة

ثمة أسئلة من النوع الساخن، تُطرح حالياً في كل من عمان والقاهرة والرياض، بالأخص في عمان ... ماذا عن مستقبل السلام الأردني – الإسرائيلي بعد هذا الانهيار المنهجي المنظم لعملية السلام و"حل الدولتين"؟ ... ماذا عن سلام مصر مع إسرائيل كذلك؟ ... هل تستمر وتيرة التطبيع بين دول خليجية عربية وإسرائيل، بعد كل هذه الانهيارات المتلاحقة في جدران عملية السلام والمبادرة العربية؟ 

إسرائيل، ومن خلفها إدارة ترامب، تعتقد بـ"انفصال" مسارات السلام والتطبيع العربية – الإسرائيلية، بعض العرب "يتمنى" لو أن أمراً كهذا ممكن الحدوث، بيد أنهم يدركون تمام الإدراك، أن مسارات "متلازمة" في نهاية المطاف ... وما يمنعهم من الجهر بذلك، وربما "تمديد صلاحية" سلامهم الثنائي مع الدولة العربية، بفعل مصالحهم المتشعبة وحساباتهم المعقدة مع واشنطن ... لا الأردن، يسهل عليه الفكاك من قبضة التعاون الاقتصادي والمالي والاستراتيجي مع واشنطن، ولا مصر بمقدورها أن تفعل كذلك ... أما الخليج، فطالما بقي "شبح التهديد الإيراني" حائماً فوق رؤوس حكوماته، فإن من غير المتوقع، إغلاق قنوات "التطبيع" مع إسرائيل، وإن كان بالإمكان التخمين بتضييقها، ما لم تُلق واشنطن بضغوط هائلة على هذه الدول، كما تفعل الآن، لدفعهما لتوقيع "معاهدات دفاعية" معها، في مواجهة العرض الإيراني بتوقيع "معاهدات عدم اعتداء" بين طهران والعواصم الخليجية الست.

مستقبل سلام إسرائيل مع مصر والأردن، و"تطبيعها" مع بعض دول الخليج العربية، يعتمد إلى حد ما، على الكيفية التي سيتعامل بها الفلسطينيون مع القرارات الأمريكية – الإسرائيلية الأخيرة، وتلك التي تنتظر، فإن تفاقم الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني واحتدم، وقاد من ضمن ما يمكن أن يقود إليه، إلى انهيار السلطة أو حلها، فإنه مما شك فيه، أن مساري السلام والتطبيع سيتأثران بذلك، وهذا ما ألمح إليه الملك عبد الله الثاني على أية حال، في إيحاء لا تخفى معانيه على أحد، ومفاده أن طريق السلام مع إسرائيل ليس ذي اتجاه واحد ... الحال، قد ينطبق على الحالتين المصرية والخليجية، سيما أن طاولت رياح "الربيع العربي" بانتفاضاته وحراكاته الشعبية بعضاً من هذه الدول، وهو أمر ليس ببعيد، في ظل ما تشهده المنطقة، من اندلاع موجات متعاقبة من ثورات الربيع العربي.

وحين تقرر السلطة الفلسطينية خياراتها واتجاهاتها، فإن الكثير سيعتمد على المواقف الدولية من القرارات الأمريكية والإجراءات الإسرائيلية، فإن استجابت أوروبا إلى دعوة اللوكسمبرج واعترفت بدولة فلسطينية تحت الاحتلال، فإن ذلك قد يطيل في عمر السلطة وأمد "حل الدولتين"، إما أن بقيت الاستجابة الدولية على حالها من ضعف وتردد، فإن الفلسطينيين سيذهبون في اتجاهين متناقضين: 

سيختار اتجاه منهم، سياسات ومواقف أكثر تشدداً، وربما يلجئون لوسائل أكثر عنفاً في صراعهم مع إسرائيل، وسيتقرّبون أكثر فأكثر من إيران وحلفائها ... أما الاتجاه الآخر، فسيتحول إلى خيار "حل الدولة الواحدة"، وربما سيقترح مقاومة شعبية سلمية – حقوقية، على طريقة ما كان يحصل في جنوب أفريقيا ... أما بقاء الحال على هذا المنوال، فلا يبدو أنه سيكون خياراً مرجحاً لغالبية الفلسطينيين، الذين ودّع كثيرون منهم "حل الدولتين" منذ زمن، واليوم، بعد القرار الأمريكي، وغداً بعد تمرير قانون ضم الغور وشمال "الميت"، ستنضم إليهم شرائح جديدة، ليدخل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في مرحلة جديدة، أكثر صعوبة وأشد خطورة، إن لم يكن على المدى المباشر، فعلى المدى المتوسط.

وأختم، بسؤال عن معنى حديث الوزير بومبيو عن التزام أمريكي بعملية سلام ومفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين ... ما الذي تبقى من السلام، وعلى ماذا سيتفاوض المتفاوضون؟

التعليقات