35 عاماً على غياب آخر مثقفي فرنسا الكبار

35 عاماً على غياب آخر مثقفي فرنسا الكبار
رام الله - دنيا الوطن
ترك غياب المفكر الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984) فراغاً هائلاً في المشهد الثقافي الفرنسي، والغربي عامة، لم يتم تعويضه حتى الآن، بل إن رحيله المبكر (عن 58 عاماً) ازداد سطوعاً مع تعاقب الأيام، بعدما اعتزلت الأكاديميا قيادة النقاش العام، واكتفت بالعيش أليفة في أبراجها العاجية، دون امتلاك الرغبة أو القدرة على مواجهة أشكال السلطات المتغولة على حياة الإنسان المعاصر كافة، في ظل الرأسمالية المتأخرة. 

فوكو بهذا الإطار كان آخر المثقفين الكبار، ولا يكاد يضاهيه أي من مجايلينا، سواء لتأثيره العميق على مروحة من المعارف والعلوم الإنسانية، من التاريخ والفلسفة إلى النظرية الأدبية وعلم الاجتماع، بل وكذلك الطب والتحليل النفسي، أو لناحية شجاعته المنقطعة النظير على الانخراط في جدل نقدي مع آبائه الفكريين، ماركس ونيتشه وفرويد وسارتر، وقدرته الاستثنائية على كسر المنظومات العلمية وتابوهات الفكر المتوارثة، للكشف عن طبيعة علاقات القوة المعقدة، وتقنيات السيطرة التي تتحكم في أقدار البشر، دون أن تكون ظاهرة للعيان. 

فوكو نفسه، الذي كان يؤمن بفكرة الفيلسوف المُتخفي، وعد دائماً أن النص أهم من أن يكون عملاً فردياً، ورفض في كل مقابلاته الادعاء بامتلاك ناصية المعرفة حول أي موضوع، لم يكن حتماً ليرضى عن وصفه بالمُثقف الكبير، لكنه أصبح بالفعل علماً على مثقف عصر ما بعد الحداثة الذي تحرر من سلطة فقه أنظمة الفكر الشمولية التي تدعي امتلاك حقيقة كلية عن العالم والوجود.

فوكو كان بامتياز الابن الشرعي لمرحلة ثورة الطلاب 1968 التي خلقت نوعاً من تخلٍ عن الماركسية - اللون الغالب على أغلب المثقفين الفرنسيين المهمين بعد الحرب العالمية - بوصفها غير قادرة على تقديم حلول محددة بشأن قضايا صارت ملحة في عصر الحداثة، لا سيما بشأن موقع النساء داخل المجتمع، والعلاقات بين الجنسين، وحقوق الأقليات، والاضطرابات النفسية والعقلية التي تتسبب فيها الرأسمالية المتأخرة، ومن دون شك بدفع من جهود أميركية لتسميم الفكر الأوروبي، في إطار المجهود الحربي للحرب الباردة، لكن تلك قصة أخرى. ولم يساعد وقتها قمع السوفيات لربيع براغ، أو موقف الحزب الشيوعي الفرنسي المُتخاذل عن دعم الطلاب الثائرين، أو الحكومات الاشتراكية التي حكمت فرنسا في أوائل الثمانينات، لدرجة أن فوكو وغيره عدوا حاملي راية الماركسية الرّسميين جزءاً لا يتجزأ من تركيبة الهيمنة التي يناضلون لإسقاطها.

موقف فوكو من الماركسية - التي لم ينكر يوماً دورها في تشكيل وعيه الفكري - لم يكن مع ذلك التحاقاً بالردة الجماعية للمثقفين الفرنسيين عنها، بقدر ما كان متأتياً من عجزها عن تقديم أدوات لفهم ظاهرة علاقات القوة الغامضة التي انتهى تنقيب فوكو في دهاليز ثقافة المجتمعات الغربية إلى الكشف عنها في تمثلاتها المتعددة التي لا تثير كبير انتباه، بوصفها من المألوف وطبيعة الأشياء: من السجن إلى مستشفى الأمراض العقلية، وبالضرورة منظومة العلاقات الجنسية، وعلاقة الفرد بجسده ورغباته.

كان المثقفون الفرنسيون سارتر وليوتارد ودولوز، وغيرهم، قد قرروا في تلك المرحلة أنه قد حان وقت دفن فكرة المثقف النظري البرجوازي الكلاسيكية نهائياً لمصلحة مثقف بروليتاري طالع من قلب الجماهير، ومنها يصوغ براكسيسه (أي فلسفته العملية بشأن الواقع). 

لكن فوكو وحده كان مسؤولاً عن خلق النموذج البديل لذلك المثقف - «المثقف المتخصص» كما سماه - وهو الذي لا يتحدث كمالك لحقائق شاملة أو لمرجعية نهائية للعدالة، بل هو مكتفٍ بالتخصص في الكشف عن حقيقة علاقات القوة التي تمنح البعض امتيازات غير متاحة للجميع. وبذلك كان فوكو يعيد في الوقت ذاته تصميم دور «النظرية»، من تقديم قراءة شاملة للآيديولوجيات ورموزها في الثقافة والسياسة والاجتماع إلى البحث في دقائق ميكانيزمات سيطرة النخبة شيئاً فشيئاً، وتحويل الاستنتاجات إلى ما يشبه أدوات معرفة استراتيجية قد تكون مفيدة للجمهور في مراحل وأشكال مختلفة، وتساعد بذلك على فتح أفق الإمكانات الثورية أمامه.

ترك فوكو مساهمات نوعية في الفكر المعاصر، سواء من خلال كتبه الفريدة (أولها نشر عام 1961؛ «الجنون واللاعقلانية: تاريخ للجنون في العصر الكلاسيكي»)، أو محاضراته ومجادلاته الكثيرة في جامعات العالم (وأكثرها طبع في مجموعات ومختارات)، وكذلك كثير من المقابلات الصحافية التي أدلى بها لكبريات الدوريات، محولاً المقابلة إلى شكل معرفي رفيع، لا مجرد ثرثرة مرتبطة بمناسبات عابرة. 

ولذلك يصعب دائماً اختصار تلك المساهمات في مقالة، أو حتى كتاب. ومع ذلك، فإنه يمكن على الأقل الحديث عن خمسة مفاهيم أساسية لم يعد ممكناً لأي باحث جاد الخوض في موضوعاتها دون المرور بفوكو كممر إجباري: أولها بالطبع علاقات القوة، موضوعه الأثير، التي أعاد تعريفها بالكامل من صيغتها القانونية - الفلسفية، كما كانت في عهد النهضة الأوروبي، إلى مجموعة علاقات وتقنيات لا مركزية تتغلغل في أجزاء الحياة الاجتماعية للبشر كافة، ملقياً بشكوك كثيفة على كل منظومة تحول المعرفة إلى مصدر للقوة والسيطرة على آخرين. 

وثاني تلك المفاهيم كان سطوة الحاضر على كل محاولة للتأريخ، وعنده أن المؤرخين ينطلقون دائماً من ضغوط وحاجات الحاضر، وأنه لا مندوحة لسردهم التاريخي عن الماضي من أن يكون مجرد إعادة ترتيب للأحداث كي تكون ذات معنى، وفق رؤية متجذرة في المرحلة التي يعيشها المؤرخ. وبما أن الحاضر في حالة تحول دائم، فإن التاريخ بالتبعية ينبغي أن تعاد قراءته مجدداً، في ضوء تحولات الحاضر. 

وأيضاً، تناول فوكو موضوع تعريف العقلانية مقابل الجنون، ليصل إلى اعتبارهما كليهما نتاج مرحلة تاريخية محددة، لا مفاهيم عالمية مطلقة. كذلك أعاد تركيب مفهوم الفكر، ليتجاوز النص النظري إلى خطاب متكامل، يتمظهر في الفعل والتصرف كما الكلام، ليصبح الخطاب ذاته ساحة للصراع، بدلاً من مجرد أداة لوصفه أو لأنظمة الهيمنة التي تخوضه مع المهيمن عليهم. وقبل رحيله، انشغل فوكو بكتابة تاريخ للجنسانية (في مجلدين)، بوصفها جزءاً لا يتجزأ من منظومة يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالأخلاقي، على نحو لا يتبقى معه للفرد كثيراً من السيطرة على جسده أو طرائق تحصيله للذة.

مساهمات فوكو بمجموعها أنتجت مشروعاً فكرياً متكاملاً في دراسة الإنسان المعاصر، بوصفه حقيقة موضوعية ضمن نسق تاريخي وثقافي معين. 

ولعل ميزة هذا المشروع الأساسية، مقابل طروحات أخرى متشائمة بشأن إمكان تحقق التغيير الاجتماعي، كما عند ثيودور أدورنو ونيكووس بولانتزاس مثلاً، تكمن في إيقاد فوكو لقصعة ضوء صغيرة أعادت الأمل بإمكان التوصل، بصيغة أو أخرى، لتحقيق تقدم حقيقي في السعي لتفكيك أدوات فرض الهيمنة، ولو بشكل جزئي. 

وقد انخرط هو شخصياً، وإن دون نجاح كبير، في معارك مع السلطات القانونية والقضائية داخل بلاده، سعياً لتحطيم المألوف والسائد والمقبول في نظم السجن والمعاقبة، فكان لذلك شبه صوت وحيد بين النخب الفرنسية، لا سيما دعوته إلى تحسين تجربة السجناء، وإكسابها شيئاً من الإنسانية التي طالما افتقدتها.

ليس بالضرورة أن نتفق مع فوكو في كل ما ذهب إليه، ومنتقدوه على بعض الجزئيات قد يكونون مهمين وكثيرين، لكن الجميع يكادون يتفقون على نزاهة منطلقات موقفه الأخلاقي الرفيع في كل مغامراته الفكرية، وحتى الشخصية، وقدرته المثيرة للإعجاب على البحث عن الحقيقة، متحرراً بوعي نادر من دوغمائيات أنظمة الفكر الشمولي جميعها. لقد كان بالفعل آخر المثقفين الكبار الذين جادت بهم فرنسا على العالم، قبل أن يصيبها العقم.

التعليقات