إسراء غريب

إسراء غريب
إسراء غريب

بقلم د. وليد القططي

إسراء غريب، اسم فتاة فلسطينية أصبحت رمزاً للظلم المجتمعي الواقع على النساء، كما أصبحت قصتها مثالاً لعشرات القصص المدفونة في غياهب النسيان؛ ذلك بأنها قصة فتاة ذهبت ضحية لمفاهيم اجتماعية مشوّهة تنظر للمرأة نظرة دونية أقل من الرجل، ولثقافة دينية مزوّرة ترى في المرأة كائناً ناقصاً وشيئاً تابعاً للرجل، قصة إسراء كان من الممكن أن تذهب أدراج الرياح كعشرات القصص المأساوية لنساء توفينِ في ظروفٍ غامضة وملابسات مبهمة، دُفنت فيها النساءُ في الترابِ، ودُفنت معهن الحقيقة تحت التراب، تلك الحقيقة ستظل نسياً منسياً حتى تقومَ الساعة، ليُقدّم يومئذٍ الجنُاة الذين أفلتوا من عقابِ الدنيا إلى المحكمة الإلهية العادلةِ، لتقتص المجني عليهن النساء من الجناة الرجال ليأخذن حقوقهن كاملةً غير منقوصة وتامةً غير مبتورة.

إسراء غريب ، قصة تاهت فيها التفاصيل الكثيرة، ولكن الأهم في تلك التفاصيل وجوهرها ما كشفت عنه النيابة العامة بعدما أعتقد الجناة أن الحقيقة دُفنت مع دفن جثتها، وما كشفته النيابة أنها توفيت نتيجة الضرب والتعنيف الأُسري، إلى جانب تعريضها لعنف نفسي وأعمال شعوذة، مما أدى إلى تفاقم حالتها النفسية والصحية، ونتيجة لتقرير الطب الشرعي تأكد وفاتها نتيجة للإصابات المتعددة الناتجة عن الضرب والتعذيب، وهذا- حسب بيان النيابة- يُشكل عناصر جريمة القتل. وكان من الممكن أن تتكرر قصة إسراء غريب في قطاع غزة مع معلمة فلسطينية أعتدى عليها أهلها بالضرب والخطف وكل ذنبها أنها قررت أن تتحرر من عبودية زوجها الذي يسومها سوء العذاب الجسدي والنفسي على مدى عشر سنوات عجاف من الضرب والإهانة والابتزاز.

جريمتا قتل إسراء غريب في الضفة والاعتداء على المعلمة في غزة،  تجعلنا نسلط الضوء على ظاهرة العنف ضد المرأة باعتبارها ظاهرة عالمية، ولكنها تزداد بروزاً في المجتمعات الشرقية، وبالتحديد الإسلامية والعربية، وما يهمنا في هذا المجال، العنف ضد النساء في المجتمع الفلسطيني، فقد أظهرت الإحصاءات الرسمية الفلسطينية الصادرة عن السلطة الفلسطينية بين عامي 2012 – 2017 تزايد حالات قتل النساء على خلفية (شرف العائلة) أو في ظروف غامضة يُعتقد أنها على نفس الخلفية، إلاّ أنها شهدت انخفاضاً في عامي 2018 – 2019، وهذه الحالات التي يتم تسجيلها فقط من تلك الجرائم.

والقتل هو أقصى حالات العنف ضد النساء، فالعنف له عدة أشكال وأنواع موزّعة ما بين العنف الجسدي الذي يتراوح بين الضرب والقتل، والعنف اللفظي كالشتم والسخرية، والعنف الجنسي كالاغتصاب والتحرش، والعنف الاقتصادي، كمصادرة دخلها وحرمانها من الميراث، والعنف الاجتماعي كحرمانها من أخذ مكانتها الاجتماعية ومنعها من أداء دورها الاجتماعي، والعنف النفسي كالاحتقار والإذلال. وكل هذه الأشكال موجودة في المجتمع الفلسطيني، ولكن معظمها يُفلّت الجناة من عقاب القانون، بسبب خوف المجني عليهن من الشكوى، أو تهاون السلطتين التنفيذية والقضائية في مثل هذه القضايا.

وعن أسباب العنف ضد النساء أظهر تقرير صادر عن الأمم المتحدة في ديسمبر 2017 حول العنف ضد المرأة في قطاع غزة، أن الفقر وغياب الفرص الاقتصادية المتاحة تشكل عوامل مركزية تقف وراء استشراء العنف ضد النساء، ويرتبط الفقر بسكن النساء المتزوجات مع أُسر أزواجهن، وهذا يوّفر بيئة مساعدة على العنف ضدهن، ومن العوامل التي تيسر استمرار الأوضاع التي يتعرّض فيها النساء لسوء المعاملة أن الجناة نادراً ما يخضعون للعقوبات القانونية أو الجنائية أو الاجتماعية المترتبة على سلوكهم، وأن العنف الواقع على المرأة في سياق الزواج لا يصل معظمه للمحاكم. وهذا التقرير يؤكد أن العنف ضد المرأة يرتبط بشبكة من العوامل الاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية والسياسية تتشابكك فيما بينها لتؤدي إلى بيئة حاضنة لثقافة العنف ضد النساء، وقد يزيد عليه ما يُعلّمهُ المجتمع للمرأة لتظل خاضعة راضية بنصيبها وتتقبل أخطاء الآخرين، وأن تحافظ على علاقتها الزوجية وأسرتها مهما كلفها ذلك من ثمن حتى لو كانت حياتها مع زوجها جحيماً لا يُطاق.

وقد يكون من أهم أسباب العنف ضد النساء في المجتمع الفلسطيني كغيره من المجتمعات العربية والإسلامية هو ثقافة التحريم والتكفير القادمة من الصحراء العربية القاحلة بعد أن أُلبست الثوب الديني بالإرهاب الفكري المدعوم بالبترودولار، تلك الثقافة التي تنظر للمرأة كعورة كلها: شكلها وصورتها ووجهها وإسمها، ومارست الوأد الجديد للمرأة، فبعد أن كانت تُدفن حية تحت التراب زمن الجاهلية، أصبحت تُدفن حية فوق التراب من خلال وأد شخصيتها كإنسانة أولاً وكأمرأة ثانياً، وحتى اسمها حاولت ثقافة الصحراء أن تنزعه منها ووضعت بدلاً منه حرفاً أورمزاً في بطاقات الدعوة للأفراح يُترك للمدعويين تخمينه. ونسيّ منظرو هذه الثقافة البائسة الأصل في الإسلام الذي يُنظر للمرأة كإنسان له ذات مستقلة تتساوى مع الرجل في القيمة والكرامة الإنسانية كما تتساوى معه في المسؤولية والتكاليف الشرعية والجزاء والعقاب. وتختلف عن الرجل في نوع الجنس الذي يفرض وظائف وتكاليف مختلفة على كلا الجنسين.

في الختام لتغيير واقع العنف ضد المرأة الفلسطينية، يجب إزالة مصدر العنف الواقع على الشعب الفلسطيني بأسره وهو الاحتلال، وحتى حدوث ذلك فإن مسؤلياتنا عديدة في مقدمتها توفير بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية مُريحة تُجفف منابع العنف في المجتمع عامة وضد المرأة خاصة، ومن المهم في هذا السياق التصدي لثقافة العنف المتسترة بعبائة الدين، ونُشر ثقافة التسامح والرحمة والمودة في المجتمع. لاسيما في الحياة الأُسرية لتكون كما أراد الله تعالى " فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ". " وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ " وقد يكون أهم من ذلك كله تُغيّر المرأة ما بنفسها لكي تتغيّر مكانتها في المجتمع نحو الأفضل، وتغيير ما في النفس يبدأ باكتساب المرأة لمفهوم إيجابي لذاتها وإيمان راسخ بقدراتها وثقة كبيرة بامكانياتها، وتصميم صلب على تحقيق أهدافها، وأخذ زمام مصيرها بيدها، وإذا فعلت ذلك فلن يستطيع أحدٌ أن يُعنفها أو يُسقط عُقدة النفسية عليها.

التعليقات