ضمن مهرجان "شاشات" الـ11 لسينما المرأة فيلم "ورق دوالي" ..عن الحنين والغربة

ضمن مهرجان "شاشات" الـ11 لسينما المرأة فيلم "ورق دوالي" ..عن الحنين والغربة
خاص دنيا الوطن

قد يبدو غريباً أن يطلق على فيلم تسجيلي يتناول قصة فيها كثير من تراجيديا، اسم طبق طعام، بل واستخدام الاسم العامي للطبق أيضاً، لكن هنا تكمن حبكة الفيلم أو الرابط بين أجزائه، فـــ"ورق الدوالي"، سيكون هو عامل الحنين الذي يجمع بين زمنين ومكانين، كما أن إعداد الطبق هو الخيط السردي للفيلم حيث يبدأ الفيلم من قطف فاطمة الماني جدة المخرجة أوراق العنب من "عريشة" منزلها، استعداداً لصناعة هذا الطبق، وينتهي الفيلم بعد أن يجهز الطبق وتضعه شهياً على طاولة الطعام.

وخلال إعداد طبق الدوالي أو أوراق شجرة العنب المحشوة بالأرز، وهو طبق أصله سوري، تسرد الجدة السورية أيضاً، والمقيمة الآن بالقدس تاريخها من دمشق حيث ولدت وعاشت وترعرعت في إحدى البيوت الشامية القديمة والعائلة الكبيرة إلى القدس مع الزوج المقدسي عبدالله الماني وأول تجربة لها في تحضير الطبق على الطريقة الفلسطينية.

ومع حشو الأوراق تتحدث عن ذكرياتها بين سوريا والقدس حين كانت الطرق متاحة، وسائقيّ السيارات ينادون "إلى القدس...إلى القدس"، والازدحام بين المدن العربية في أَوجه حين لم تكن هناك حدود، وعائلتها تزورها دوماً دون ميعاد قائلة "كنت أجدهم فجأة يطرقون بابي".

إلا أن كل شيء تغير بعد الاحتلال الإسرائيلي الذي احتجز فلسطين عن عمقها العربي وأغلق كل الطرق، ما جعل سفرها مستحيلاً، ومرت الأعوام ومات كثيرون من أفراد عائلتها دون أن تقابلهم، ومع ذلك لا تزال تحمل الأمل بأن تستطيع الرجوع يوماً ما لزيارتهم ولكن ليس لاستبدال حياتها في القدس وعائلتها الفلسطينية، "لو يعطوني مال الدنيا بتركش داري وبروح لسوريا".

وعلى الرغم من كون الفيلم يعتمد على شخصية واحدة إلا أن المُشاهد لا يمل من الاستماع إلى هذه الشخصية، ومشاهدة صور الألبومات القديمة بصحبتها، نظراَ لروحها المرحة، بل يرافقها في السفر وهي تصف الطريق بين سوريا والقدس، كما يضحك معها حين تقول لزوجها في واحدة من المرات التي وصلت فيها أعتاب سوريا " آه، أنا صدري انفتّح...بقدر أتنفس"، فكان رد زوجها " وأنا صدري اتسكر".

بعدها أغلق الاحتلال كل شيء، وانقطعت الصلة بماضيها، وأخذتها الحياة لمكان آخر وناس آخرين لا تعرفهم ليصبحوا عائلتها ويصبح هذا المكان الجديد وطنها، وكأنها غدت واحدة غيرها لا يربطها بنفسها قديماً سوى الذكريات.

وتتناول حكاية فاطمة الماني التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي مرت بها المنطقة دون أن تتعمد ذلك بل ضمن تفاصيل شخصية تسردها ببساطة، وكأنه لا توجد مقابلها كاميرا، فقد أشارت إلى الرسائل التي كان من السهل وصولها بالبريد بين سوريا والقدس قبل عام 1967، ثم بعد النكسة انقطع كل شيء.

وتستمر في سردها لأجواء ذلك الزمن، وكيف أنها حين تزوجت في القدس خلعت الحجاب، وكانت تشعر بالخوف حين سافرت إلى سوريا من ردة فعل والدها الذي اعترض بالفعل لكن زوجها أجابه "هي زوجتي وأنا أريدها كذلك".

ويمس الفيلم القلوب خاصة تلك المغتربة عن أوطانها ولا تستطيع العودة، فعن سوريا تقول "اشتقت اكتر شي لميتها، لهواها، لأماكنها، لمصايفها، كلها...كلها"،ويطرح بديهة أن الإنسان يعيش في الحنين حتى لو لم يغادر مكانه، فهو سيحن إلى ماضيه أيضاً.

والفيلم من إبداع المخرجة الشابة دينا أمين وقد صورته عن حياة جدتها السورية، إذ كانت لديها فكرة أخرى تتعلق بازدواجية الهوية كونها فلسطينية تحمل هوية مقدسية وهي من "بيرنبالا"، لكنها وجدت عند تطوير الفكرة أن الجدة تعبر عن هذه الازدواجية وغناها وأنها قصة أقرب إلى التنفيذ وأقل تعقيداً وتكلفة حين تتحول إلى السينما، ألا وهي حكاية جدتها السورية.

كما تم تصوير مَشاهد الفيلم باحترافية، واستعراض القصة بخفة وعمق معاً، ما يجعل المتلقي يشعر أنه يعيش مع هذه السيدة يومياتها وغربتها وحنينها إلى الماضي، دون أن يستطيع حماية ذاته من التورط هو الآخر بالحنين إلى شيء ما، وهو ما يجعل الفيلم يتسم بالقسوة على المتلقي وبطلة الفيلم.

وهذا ما توافق عليه المخرجة أمين بقولها " بالطبع كنت على وعي بأن هناك قسوة، وشعرت بالذنب لوضع جدتي في مرحلة استرجاع الذكريات، فلم أدرك مشاعرها الجياشة تجاه بلدها سوريا".

وهذا الفيلم واحد من عشرة أفلام من إخراج مخرجات فلسطينيات شابات من الضفة الغربية، القدس وقطاع غزة، قامت مؤسسة "شاشات سينما المرأة" بإنتاجها والإشراف عليها، وتوفير الإمكانيات اللازمة لنجاحها، وسيتم إطلاقها في "مهرجان شاشات الحادي عشر لسينما المرأة" الذي يحمل عنوان "أنا فلسطينية". وتبحث هذه الأفلام في البعد الذاتي للانتماء والهوية، كما تركز على تعبيرات متشعبة عن حيوات المرأة الفلسطينية المتعددة التي تعطي عمقاً إبداعياً وذاتياً لتصورات سينمائية حول العلاقة مع الأشخاص، الأشياء، المشاعر، الأماكن، الحكايات والعلاقات.

وتسلط الأفلام الضوء على إعطاء عمق شخصي لكيفية تعزيز المواطنة بأبعادها المكانية والزمانية وفضاءات احتمالاتها، إذ تشكل أفلام "أنا فلسطينية" جزء من مشروع "يلاّ نشوف فيلم!" الذي تنفذه مؤسسة "شاشات سينما المرأة"، وهو مشروع ثقافي-مجتمعي ممتد على ثلاث سنوات بتمويل رئيسي من الاتحاد الأوروبي وتمويل مساعد من مؤسسة CFD السويسرية وممثلية جمهورية بولندا في فلسطين، ويستهدف جمهور واسع وفئات مجتمعية مختلفة في سعيه إلى تطوير قدرة الفئات المجتمعية المختلفة على النقاش والتفاعل المتبادل، وذلك بهدف تعزيز المواطنة وحرية التعبير والتسامح والسلم والمسؤولية المجتمعية وتماسك النسيج الاجتماعي.

وعن موضوع المشروع "أنا فلسطينية" وكيف ربطته المخرجة أمين بالفيلم تقول "ربطت فكرة المشروع بالفيلم عبر طرح فكرة التمسك بالهوية الفلسطينية بالرغم من الصعوبات التي يواجها الفلسطيني في حياته اليومية، ويظهر ذلك من خلال جدتي السورية التي تزوجت فلسطيني مقدسي وتغربت عن بلادها بلاد الشام لتقيم بوقت إغلاق الحدود في ١٩٦٧".

وتتابع أن تلك الحياة لم تكن الحياة المريحة التي تنشدها فقد عاشت تحت الاحتلال الإسرائيلي لكنها رغم ذلك تمسكت بوطنها في القدس، فقد أحبت الأرض من ناحية، وهناك أبناؤها من ناحية أخرى، متابعة "ويظهر الفيلم كمونولوج طويل، فهو شديد الذاتية، رغم أن توثيق حديث جدتي في الفيلم تم من خلال نقاشها معي كأنها تروي قصة من قصصها، لذلك أعتبر نفسي شخصية ثانوية بالفيلم، وقد تعمدت أن تكون الإجابات من جدتي موجهة لي أي للحفيدة، ويظهر ذلك الجانب أكثر من مرة في الفيلم مما يعكس عفوية شخصيتها للمُشاهد ويقرب الفكرة بشكل مريح"، مضيفة بابتسامة "خاصة عندما تطلب مني تاتا سكري بربيج الماء الذي كان يروي الحديقة."

وحول الجوانب الثقافية التي ظهرت من الفيلم وربما لا تكون على علاقة مباشرة بحبكته، تقول "أردت أن أظهر الجوانب الاجتماعية والثقافية عبر علاقتها مع جدي ووالدها، وهكذا يفهم المُشاهد شكل الحياة التي عاشتها جدتي وبقية النساء في ذلك الزمن".

وإذا ما كان هناك صعوبات واجهتها المخرجة ترد "من الصعوبات أننا صورنا بالبداية في منطقة خطرة حيث يقع منزل جدتي في منطقة يملأها الإسرائيليون قرب قبر الصدّيق شمعون، وهو الجزء في الفيلم الذي اختصرته في مرحلة ما بعد الإنتاج حيث صعوبات من نوع آخر في الحفاظ على وحدة الفيلم وحذف الكثير، ولكن بمساعدة المونتيرة ربى صنعنا فيلماً قوياً متكاملاً".

تضع الجدة السورية المقدسية طبق "ورق الدوالي" على سفرة الطعام، بعد أن تلتقط النعناع من حديقتها ثم طبقي اللبن والسلطة، ويبدو واضحاً أن ابنتها وحفيدتها ستكونان ضيفتيّها، على أمل يوماً ما أن تأكل ذات الطبق في سوريا مع شقيقاتها وبناتهن اللواتي تتواصل معهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولم تسافر إليهن بعد، لكنها ستفعل قريباً كما تؤكد طوال الفيلم، وكأنها تمّني نفسها بذلك، فهي بحاجة إلى ما يهون الغربة حتى بعد أن أصبحت وطناً!


التعليقات