ضمن مهرجان "شاشات الـ11 لسينما المرأة".. "سرد" حين تصنع الرسائل الصوتية فيلماً

ضمن مهرجان "شاشات الـ11 لسينما المرأة".. "سرد" حين تصنع الرسائل الصوتية فيلماً
رام الله - دنيا الوطن
لا تعتبر مدينة غزة من تلك المدن التي يسهل مغادرتها أو القدوم إليها، وذلك لأن معابرها أغلبها تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بينما معبر رفح البري بين جنوب قطاع غزة ومصر يُلزم المسافرين الانتظار لوقت طويل حتى يصبح السفر عبره متاحاً، وهذا ما جعل المخرجة رهام الغزالي تنتظر هي الأخرى طويلاً قبل أن تعرف إذا ما كانت ستلتحق بمنحتها الدراسية في الخارج أم أن الفرصة ستضيع عليها.

وخلال ذلك الانتظار القاتل كانت رهام دائمة إرسال الرسائل الصوتية لصديقتها المخرجة زينة رمضان، ليس فقط لتطمئنها بل أيضاً لأنها هي الأخرى تبحث عن الاطمئنان بشكل أو بآخر وبأن الأمل لا يزال قائماً.

وكانت كل من زينة ورهام التقيتا لأول مرة عند رجوع رهام من مهرجان "حقوق الإنسان" في إيطاليا خلال طريق عودتها إلى غزة، كما تعرفت وقتها رهام إلى مخرجات أخريات من الضفة ممن عملن مع "شاشات" أيضاً، وكانت كُل المجموعة من شطري الوطن تلتقي للمرة الأولى في حالة من الانتعاش الشخصي والسينمائي.

وعادت رهام إلى غزة وتطورت صداقتها مع زينة التي دعتها إلى منزلها في نابلس، وذلك على مدى سنوات مرت كانت تتاح فيها الفرص القليلة لرهام الخروج من غزة، فتزور زينة المقيمة في الضفة الغربية في طريقها.

وهذه الرسائل الصوتية بينهما عبر "فيسبوك"؛ كانت فكرة فيلم "سرد" الذي يتمحور حول ثيمة الخروج من قطاع غزة حيث أنهك الحصار القاسي منذ أكثر من عقد من الزمان كل مظاهر الحياة فيه .

حصار قضى ويقضي على أحلام الطالبات والطلاب والشباب والعائلات بأن يجدوا أفقاً أكثر رحابة لحياتهم من مدينة ضاقت عقب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والحروب المتتالية.

وبحثت الصديقتان عن منحة دراسية في الخارج علَهما تلتقيان من جديد، إلا أن واقع الانفصال والحصار وضع تلك المحاولات على المحك، وجعل الشعور بالاستسلام قريباً منهما.

ويجمع زينة ورهام حب صناعة الأفلام، وكان حلمهما الحصول على الماجستير في مجال السينما في دولة أجنبية، وخاضتا نقاشات طويلة حول هذا الحلم الذي تحول إلى حقيقة حين تم قبول رهام بمنحة كاملة في رومانيا على أن يبدأ الفصل الدراسي في سبتمبر المقبل، وهذا يعني أن هناك بضعة أسابيع متبقية للالتحاق بمقعدها الدراسي.

سرعان ما تخوض رهام سباقاً مع الزمن، إذ عليها تأمين خروجها من غزة وهذا يحتاج في الغالب إلى ستة شهور إن لم يكن عاماً، خاصة من لا يمتلك "الواسطة" أو المال.

وخلال هذه الفترة ترسل رهام العديد من المقاطع الصوتية إلى زينة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تناقش معها خيارات الخروج إما معبر إسرائيل أو مصر وأحلاهما مر!

تقول المخرجة زينة عن هذه الرسائل " كنا نحكي مع بعضنا بالصوت كنوع من الكسل؛ فمن المتعب وضع كل المشاعر في اختيار الكلمات وكتابتها، بينما كان أسهل وأسرع تسجيل الرسائل الصوتية".

وتضمن الفيلم عناصر كثيرة من الحداثة، كما تكلم بلغة عصره حين اكتفى بعرض الرسائل الصوتية في واحدة من أكثر وسائل التواصل الاجتماعي شيوعاً "ماسنجر الفيسبوك"، وفي ذات الوقت قدم موضوعاً كلاسيكياً مصغراً عن قضية فلسطين، ومعاناة النساء في البحث عن هويتهن في واحدة من أصعب البقع الجغرافية المليئة بالنساء المكافحات.

وفي هذا المربع من التناقضات بين الحداثي والكلاسيكي وبين القوة والضعف والسفر والبقاء والقرب والبعد، والصوت والصورة، يتشكل فيلم "سرد" مميزاً وقصيراً ومبدعاً.

أما الشخصيات في الفيلم، فلم تتواجد؛ كي لا تسحب دور البطولة من "الصوت"، لذلك اكتفت المخرجة بظلال لفتاة تبدو متأملة دائماً، وغالباً ما يتم عرض صورتها من الخلف، وذات شعر طويل، إضافة إلى رسوم متحركة مميزة من إبداع الفنانة سارة علان زادت من غِنى القصة وألقت عليها خفة الحكاية ورشاقتها وإنسانيتها في ذات الوقت، دون أي ثقل من تعدد عناصر الاستعراض الدرامي، بل تكاملت جميعها لتسرد حكاية واحد هي حكاية رهام الغزالي!

وجاءت الرسوم المتحركة في الفيلم بديلاً عن الكلمات بل أكثر كثافة ودلالة وتختصر صراعا مذهلا في حكاية رهام خلال بضع رسومات، ما يضفي على الفيلم الوثائقي حيوية ويمنع الملل ويدخل عنصر التشويق البصري، بالإضافة إلى أنه أعطى قيمة للفيلم الوثائقي أكثر جدية وجمالاً وحداثة من لو قامت المخرجة بإعادة تمثيل المَشاهد، لذلك من الممكن القول أن نسبة التجريب في فيلم "سرد" عالية وعلى أكثر من مستوى وهي مغامرة نجحت فيها المخرجة أولا ومؤسسة شاشات ثانياً.

وعن عدم وجود شخصيات في الفيلم تقول المخرجة رمضان "لم أجد شيئا مناسبا لعرضه مع الصوت، ولا ينفع التمثيل كذلك، فقد كنت أبحث عن شيء من خارج السياق الدرامي التراجيدي أو التوثيقي التقليدي الذي يتناول مشاكل الحصار والطلبة عبر المقابلات".

ولا مناص من القول أن المتلقي للفيلم سيفتقد الصوت الآخر للصديقة أي صوت زينة في ردها على رسائل رهام لتكتمل الثنائية التقليدية بين صديقتين، ثنائية نعرفها، لكن نادرا ما نشاهدها سينمائياً، بيد أن ذلك لا يحدث فنسمع رسائل رهام وحدها!

وعن ذلك تقول رمضان " اخترتُ أن لا أضيف المقاطع الصوتية التي تخصني لأني شعرت أن صوتي سيأخذ مساحة ليس لها داعي، فهذه قصة رهام وليست قصتي"

وهكذا يبقى السرد مقتصرا على صوت رهام، وتنوع التعبير السينمائي بين الصور التعبيرية والفنية في رحلة صوتية تتصاعد وتهبط حسب نغمات صوتها بين الحماسة والخذلان، وفقدان الأمل ثم استرجاعه، إلى نهاية أو ربما بداية رحلة جديدة؛ فمرة نسمع رهام تقول بيأس " رقمي في السفر 17 ألف"، ومرة أخرى تقول "ستتحسن الأمور في المعبر...فقد انتهى موسم الحجاج..."

وقالت مديرة المشروع والمنتجة علياء ارصغلي عن فيلم "سرد": "من المهم تتبع رؤية رهام لغزة في الفيلم، فهي المصورة الفوتوغرافية والمخرجة السينمائية الحائزة على جائزة من الأونروا لتوثيقها ما بعد حرب 2014 كما حصلت على جوائز إقليمية عن فيلمها خارج الإطار، وهنا رهام صوت، وليست العينين التي كانت ترى فيهما المعاناة يومياً وتعيش مأساة غزة ما دفعها للابتعاد، وقد أبدعت زينة في تصميمها للفيلم والرسوم المتحركة، وقدرتها على إيصال الشعور للمشاهد بالحصار والاختناق الذي تشعر به رهام والذي ينفرج بالمشهد النهائي للأفق الواسع مع البحر".

وهذا الفيلم واحد من عشرة أفلام من إخراج مخرجات فلسطينيات شابات من الضفة الغربية، القدس وقطاع غزة، قامت مؤسسة "شاشات سينما المرأة" بإنتاجها والإشراف عليها، وتوفير الإمكانيات اللازمة لنجاحها، وسيتم إطلاقها في "مهرجان شاشات الحادي عشر لسينما المرأة" الذي يحمل عنوان "أنا فلسطينية". وتبحث هذه الأفلام في البعد الذاتي للانتماء والهوية، كما تركز على تعبيرات متشعبة عن حيوات المرأة الفلسطينية المتعددة التي تعطي عمقاً إبداعياً وذاتياً لتصورات سينمائية حول العلاقة مع الأشخاص، الأشياء، المشاعر، الأماكن، الحكايات والعلاقات.

وتسلط الأفلام الضوء على إعطاء عمق شخصي لكيفية تعزيز المواطنة بأبعادها المكانية والزمانية وفضاءات احتمالاتها، إذ تشكل أفلام "أنا فلسطينية" جزء من مشروع "يلاّ نشوف فيلم!" الذي تنفذه مؤسسة "شاشات سينما المرأة"، وهو مشروع ثقافي-مجتمعي ممتد على ثلاث سنوات بتمويل رئيسي من الاتحاد الأوروبي وتمويل مساعد من مؤسسة CFD السويسرية وممثلية جمهورية بولندا في فلسطين، ويستهدف جمهور واسع وفئات مجتمعية مختلفة في سعيه إلى تطوير قدرة الفئات المجتمعية المختلفة على النقاش والتفاعل المتبادل، وذلك بهدف تعزيز المواطنة وحرية التعبير والتسامح والسلم والمسؤولية المجتمعية وتماسك النسيج الاجتماعي.

وعن علاقة فيلمها بثيمة المشروع "أنا فلسطينية"، تقول المخرجة "ما حدث مع رهام ليست عوامل طارئة، بل أمور نعيشها كل يوم كفلسطينيين، حياتنا معرضة للخطر دائما، واقعنا السياسي لا ينفك أن يحمل لنا رسائل شؤم ولا يبشر بأية حلول، هذا هو واقع أن تكوني فلسطينية، وإن خرجت من هذه البقعة الجغرافية فهذا لا يعني أنك ستكونين محصنة ضد الألم الناتج عن ذلك كله، بل ربما البعد سيزيد من شعورك بالعجز."

وتزيد المخرجة بقولها "أن تكوني فلسطينية يعني أن تتنفسي الصعداء وسط كل ذلك، وتكوني قادرة على التعايش مع الإحباط المستمر الذي يولد ويتجدد بعد كل حادثة، وأن تستقي أفضل أجزاء من تلك الحادثة وتصنعي منها قصة بكل ما فيها من ألم وفرح، كي تستحق بجدارة أن تُروى في كتاب أو فيلم، وتقاومي بالرغم من كل ما يحصل ".

تنتهي الرسائل الصوتية وتنتهي معها حكاية فتاة من بين آلاف ينتظرن حلمهن أن يتحقق، ولكن هل سافرت رهام وتجاوزت حصار غزة؟، ربما نحتاج أن ننتظر لمشاهدة الفيلم ونعرف ما الذي حدث معها، أقصد نسمع الفيلم ونعرف!


التعليقات