النظام، والمصادفات في أشكال الحياة

النظام، والمصادفات في أشكال الحياة
عبد الغني سلامة

لو عدنا إلى زمن "ثيا" (الكويكب الذي ضرب الأرض وسلخ منها القمر)، وتخيلنا أن هذا الكويكب قد زاغ عن مساره ولم يضرب الأرض؛ فهذا معناه أنه لن ينشأ القمر، وبالتالي ستكون الأرض (كغيرها من مليارات الكواكب) غير صالحة للحياة. 

ولو تركنا القمر جانبا، وعدنا إلى زمن الديناصورات، وتخيلنا أن النيزك الذي تسبب بفنائها، قد انحرف عن مساره بمقدار بوصة على بعد ملايين الأميال، فإنه سيواصل رحلته المجنونة في غياهب الفضاء ليضرب كوكبا آخر، هذا يعني أن الديناصورات لن تموت، وستواصل هيمنتها على بقية المخلوقات، الأمر الذي سيمنع نشوء وتطور الثدييات، أو أنها ستنشأ بصورة مختلفة تمكّنها من التعايش مع هذه الوحوش الضخمة. وربما تواصِل الديناصورات تطورها، فتسمح لها جمجمتها الضخمة أن تُطور ذكاءها أكثر، معنى ذلك أنها اليوم (أي بعد 65 مليون عام من نجاتها من النيزك) ستكون هي من تكتب تاريخ الأرض، وتقترح النظريات المختلفة التي تفسر نشوء أسلافها من الزواحف!!

وهناك ما لا حصر له من الفرضيات التي لو تحققت لغيرت شكل الحياة على الأرض كليا، فلو نفذت والدة هتلر رغبتها وأجهضت جنينها قبل أن يرى النور، لما قُتل 50 مليون إنسان في الحرب العالمية الثانية، ولما كان النظام العالمي بالشكل الذي نراه اليوم، ولتغيرت في أعقاب ذلك خارطة العالم السياسية جذريا.

ولو تمكن حيوان منوي آخر، من بين ملايين الحيوانات المنوية، واخترق جدار البويضة، فحتما سيأتي إنسان آخر مختلف، طالما أن لكل حيوان منوي خارطته الجينية الخاصة به، وأن كل تلقيح لن يتطابق مع الآخر. فهل لنا أن نسأل هل هناك إرادة وتوجيه قادا هذا الحيوان المنوي بالذات، أم أن الأمور تمت هكذا ليحكمها العشوائية والصراع وتوفُر ظرف موضوعي قاد هذا الحدث؟! 

هل شكل الحياة الحالي هو الشكل الوحيد المحتمل؟ وهل أخذ هذا الشكل مسارا تطوريا حتميا وإجبارياً، لم يكن ليسـمح بوجـود أشكال أخرى؟ وما هي الحكمة من هذا الإسراف في حجم الكون إلى حد يفوق قدرتنا على التصور؟ هل يسيّر الكونَ نظامٌ دقيق ومحكم؟ أم فوضى وعشوائية شديدتان؟! إذا كان ثمة نظام يحكم إيقاع الحياة على الأرض أوجدَها بأفضل صورة وأحسن تكوين، فكيف نفسر الكوارث الطبيعية التي تخرّب وتهدم وتحرق كل شيء في طريقها؟! ألم يكن ممكنا تصور أرضٍ دون براكين ولا زلازل ولا أعاصير، ليعيش إنسانها مطمئنا هادئ البال؟

وهل كانت الحياة في مسيرتها تخضع لقوة خارجية مهيمنة كانت تتحكم في كل مساراتها، وتتدخل في أدق تفصيلاتها، وتجبرها على أخذ منحى معين دون آخر؟ أم كانت الأمور تسير وفق قوانين الطبيعة وصراع الأضداد؟ إذا كانت إجابة السؤال الأول نعم، فما الجدوى من وجودنا على الأرض، طالما أن مسرح الحياة معد سلفا بكل تفاصيله؟

فهْمُ الطبيعة بمقتضى قوانينها العلمية، سيخلصنا من المأزق الذي ورّطنا فيه أصحاب الفكر اللاهوتي والديني، الذين دأبوا على ربط كل صغيرة وكبيرة بوجود الله سبحانه وحكمته وغايته، متجاهلين تماما أي دور محتمل للطبيعة. حيث إن حدوث مجاعة يموت فيها الأطفال وهم في حضون أمهاتهم وهنَّ يبكين وينتحبْنَ عجزهِنَّ عن تأمين كسرة خبز، أو شربة ماء، يتعارض مع عدالة الخالق ورحمته، ولكن ربط المجاعات بعوامل المناخ وظروف الجفاف مثلا، سيعني أن الطبيعة هي التي تأخذ دورها في تسيير الأمور، وهي طبيعة عديمة الرحمة، وغير عاقلة ولا مدركة لما تفعل، ولا يهمها مصير الأطفال، كما لم تعبأ بمصير الكائنات التي انقرضت ولم يعد لها وجود، سوى متحجرات متناثرة هنا وهناك. 

ومن ناحية ثانية، فإن التسليم بقوانين الطبيعة لا يتعارض بالضرورة مع وجود الإله.. وقانون التطور لا يتناقض مع وجود إرادة إلهية، ولا ينفي إمكانية تدخلها في مفاصل معينة، ونظام الطبيعة (وإن بدا أحيانا غير متوازن) لا ينفي وجود حكمة ربّانية ما، قد نجهلها حاليا. فعلى سبيل المثال يقول البعض، إن طبيعة كوكب الأرض غير مثالية، وفيها ثغرات وعيوب كثيرة، من مثل أن توزيع اليابسة بالنسبة لخطوط العرض وملاءَمة المناخ توزيع غير ذكي، أدى إلى خسارة مساحات شاسعة لأماكن مثالية من ناحية المناخ ضاعت في المحيطات، وأيضاً المساحات المفقودة في الصحارى والجبال الجرداء، فضلا عن البراكين والزلازل والأعاصير وقلاقل قشرة الأرض التي لا تهدأ... ولكن هذا بالنسبة للمؤمنين، لا يعني بالضرورة خللاً في الخلق؛ بل يعني أن الخالق هيأ الأرض بشروط غير مكتملة تماما، لأن الكمال لله وحده، وعندما تكون الحياة مثالية بشروطها، وكل صغيرة وكبيرة فيها تجري بانتظام دون مشاكل، ستصبح حياة تافهة، خالية من أي معنى؛ فالجمال تبرز قيمته مقابل القبح، والنظام مقابل الفوضى.

وإذا سلّمنا بأن الجفاف هو من تسبَّبَ بالمجاعة، فإننا مدعوّون بأن نسلّم بقوانين الطبيعة كلها، التي تتحكم في مسارات الحياة بكل أنواعها وأحداثها واحتمالاتها. بدءا من التصادمات الرهيبة التي تحدث باستمرار في أرجاء مختلفة من الكون، والتي تتعارض مع فكرة أن كل شيء محسوب بميزان دقيق، وانتهاءً بخيارات الفرد البسيطة، التي تعطيه قدرا من الحرية، وبالتالي معنى لحياته.

لقد حاول الإنسان ومنذ أن امتلك وعيه تصوُّر حياةٍ بلا شقاء ولا معاناة، وبعد آلاف السنين من مسيرة تطوره الحضاري، حقق نجاحات مذهلة في هذا المضمار، دون الاستعانة بقوى ميتافيزيقية، بل فقط بالاعتماد على عقله وإرادته وذكائه الجمعي، فإذا قمنا بإجراء مقارنة بسيطة بين أي عصرين متلاحقين، سنشهد العديد من الإنجازات التي ساعدت الإنسان في التخلص من بعض آلامه وخوفه وأمراضه، وأمّنت له قدرا من الراحة والرفاهية، وحققت له مزيدا من الرخاء والتقدم، ولكن، وللأسف بمقدار ما جلبت الحضارة الراحة للإنسان، وأطالت في عمره، فقد جرّت عليه الويلات والدمار، ومزيدا من البؤس والشقاء، وأيضا بفعل إرادته ووعيه!!

التعليقات