جين كالدر الأم الأنسانة

جين كالدر الأم الأنسانة
جين كالدر، الأم الأنسانة
د. رياض عبد الكريم عواد

من بيروت الى غزة مرورا بالقاهرة، ثلاث محطات في حياة الأسترالية د. جين كالدر، بدأت هذه الرحلة في بيروت بعد أن التقت في 1980 مع دكتور فتحي عرفات، رئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني آنذاك.

تأسست جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني سنة 1968 على يد فتحي عرفات شقيق ياسر عرفات. تعدّ هذه الجمعية مؤسسة إنسانية، وهي أحد مؤسسات م ت ف وأحد الجمعيات الأعضاء في جمعية الصليب والهلال الأحمر الدولية. تقدم خدماتها عن طريق المستشفيات وخدمات الطوارئ وسيارات الإسعاف، وبشكل أساسي خدمات الرعاية الصحية في الضفة الغربية وقطاع غزة. تقع مكاتب الإدارة العامة للجمعية في مدينة البيرة. في عام 2006، تم الاعتراف بعضوية الجمعية الكاملة في الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر. تحت شعار خمسون عاما في خدمة الانسانية..... وللحلم بقية

عقدت الجمعية مؤتمرها العام الثاني عشر في 6 يوليو 2019.

عاشت كالدر حرب اجتياح بيروت عام 1982 وشاهدت مأسي المشردين والجرحى والمعوقين، ضحايا هذه الحرب الهمجية، وكانت شاهدة على مذابح صبرا وشاتيلا، وما اقترفته أيدي الفاشية اللبنانية المحمية بجيش شارون العنصري.

تصف الدكتورة الأسترالية، من مواليد استراليا عام 1936 غير المتزوجه، والتي تطوعت للعمل مع المعوقين لتزرع البسمة والأمل على شفاههم طيلة ثمانية وثلاثين عاما رحلتها ب "رحلة الحب والتحدي" من أجل ان تمنح الحياة والحب لمن سلبت الحرب أرواحهم وأسكنتها الأشباح، كمدن مهجورة وذلك في كتابها الذي شرحت فيه رحلتها وعنونت له "أين يقود الطريق".

لم تسمح لها حكومة لبنان المتوجة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي بالاستمرار في العمل مع ضحايا الحرب والمجازر، من جرحى ومعوقين وأصرت على طردها من هناك تحت حجج مختلفة، رغم المحاولات الحثيثة التي بذلها الهلال الأحمر الفلسطيني من أجل بقائها لتعيد للضحايا شيئا من حياة وبعضا من أمل.

كالدر، لم تتزوج، لم تجد لديها الوقت الكافي لتفعل ذلك وتكون اسرة، لكن الأطفال "بدر وحمودة ودلال "، ثلاثية الجرح والألم وبشاعة الحرب، الذين كانوا يصرخون في شوارع بيروت واكتووا بنار الحرب التي مزقتهم ووجدوا أنفسهم بلا أسرة أو أوراق ثبوتية ، شكلوا كل اهتمام كالدر، فاحتظنتهم بكل الحب والرعاية، وكونت منهم اسرة تعطيها كل ما في قلبها من حنان وحب. تقول عنهم: "هؤلاء عائلتي التي أقيم معها في غزة"، ما زالوا يلازمونني، للآن كطيف ارى في وجوههم انتصار الحياة.

طردوها من بيروت فغادرت إلى القاهرة وعملت هناك مع فرق الهلال مدة 12 عاما، استطاعت أن تنشئ مركزا للتدريب والتأهيل استفاد منه الفلسطينيين والمصريين .

عشقت الفلسطينيين وانحازت بقلبها وعقلها وإنسانيتها لهم قبل أن تخالطهم.... ورغم ما سمعته عنهم من نعوت..." إنهم إرهابيون ".. يحظر التعاطف معهم أو دعمهم ومساندتهم.. لم تسمع كلام ونصائح الاهل بخطورة الذهاب إلى الشرق وأنها تستطيع أن تقوم بواجبها هنا في استراليا حيث الأمن والرفاهية والحياة. تقول بهذا الشأن: كثيرا ما ألح أهلي، بسبب الأوضاع في فلسطين، من طلب عودتي خوفا على حياتي، بل وقالوا بإمكانك أن تعملي هنا، فأناس كثيرون بحاجة للمساعدة، ولكني رفضت واصريت أن أبقى لتحقيق رسالتي، وقد كنت اعلم أني سأواجه صعوبات وربما خطرا وهذا ما كان يزيد من إصراري.

اختارت الدروب الشائكة، بعيدا عن حياة الرفاهية الغربية، وهي تحمل قيمة إنسانية وتؤمن بان "من يعمل مع ذوي الإعاقات لا بد أن يعمل بعقله وقلبه ويده" وهو ما طبقته في عملها أكثر من 38 عاما في خدمة هذه الفئة...

وصلت من القاهرة الى غزة لترى بأم عينها نوعا جديدا من البؤس يكلل حياة 2 مليون إنسان محشورين في علب السردين، يخرجون من حرب إلى حرب تفصل بينهما حرب.

المعوقين جزءا أصيلا من المنظر العام، شباب بعمر الورود يبحثون عن عكاكيز تعينهم على مواصلة المسير، بعد أن تعبوا واعياهم البحث واهمال ذوي القربى، يبحثون عن دواء يبلسم جراحهم الخطرة، التي تعفنت بسبب رصاص الإسرائيليين المسمم والمحرم دوليا.
غزة، هذه هي غزة، شريط طويل من المعاناة، هواء ملوث بازيز وهدير الطيران الذي لا ينقطع، يجوب السماء دون رادع أو مانع. عواء الزنانة يصم الأذان ويدوش الراس ويسبب صداعا مقيما لأهل الغزة القابعين في 8 مخيمات و5 من المسماة مدن وقرى مزدحمة بالبشر. لجين كالدر رأي في الزنانة، التي أثرت عليها كما أثرت في كل الفلسطينيين ونغصت عليهم حياتهم، بل أشعلت توترهم وتساؤلاتهم حول الموت القادم على جناحيها، من هو القتيل القادم..... اين سيكون موقع الموت الجديد؟!.

دونت كالدر في مقدمة كتابها، اين يقود الطريق، بينما الزنانة كانت تضرب في أذني بشكل مزعج ومخيف كنت اشعر أن حياتنا مراقبة، لا نستطيع مشاهدة التلفاز، وكنت أسأل نفسي في كل مرة "يا ترى من هو المستهدف هذه المرة".

تبتسم كالدر حين يسألونها عن غزة، كالدر التي تنحدر من أسرة استرالية كادحة تحمل ابتسامة نقية وتقول: "غزة علمتني الكثير، استغرب كم هم أهلها صامدون في ظل كل هذه الظروف دون إحباط أو يأس، ومن صمودهم استمد عزيمتي في المضي من اجل خدمة ذوي الاحتياجات الخاصة، لأنهم بحق يستحقون كل اهتمام ورعاية، ويثبتون في كل يوم أنهم أقوى من الموت وأصلب من كل معاناة".

اسست دكتورة كالدر كلية تنمية القدرات في جمعية الهلال الأحمر في خان يونس، وعملت عميدة لها لتضمن مأسسة رعاية المعوقين وتضمن استمرار تقديم الرعاية لهم على أسس علمية صحيحة وبايدي خبرات محلية مدربة وفقا لارقى البرتوكولات الدولية.

كالدر كُرمت في مناسبات عدة من قبل المؤسسات الأهلية الفلسطينية على جهودها في العمل التطوعي، وكان التكريم الذي أثلج صدرها، وتصر انه اعتراف من العالم بالفلسطينيين وبمعاناتهم حصولها على جائزة "وسام أستراليا" (AC) في يوم أستراليا لعام 2005، تكريما ل "الخدمة الإنسانية التي تقدمها للأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان وغزة والمناطق المهملة الاخرى، وللعلاقات الدولية التي تنسجها، وإلى التدريب الأكاديمي والمهني الذي تقدمه في مجالات التعليم وإعادة التأهيل. وهي ارفع جائزة تقدمها استراليا لمواطنيها. تقول كالدر :" أنا لا اعمل كي أكرم أو أحظى بجوائز تقديرية".

بدد الاحتلال الإسرائيلي فرحة كالدر بالحصول على الجائزة، إذ منعها من السفر إلى استراليا لحضور حفل تسلمها.

المشوار مع د.كالدر لا ينتهي، بل إن الحلم لم يبدأ بعد هذا العمر، ما زالت تحتفظ بالكثير من الأحلام التي تتمنى أن يسعفها العمر لتمضي بقيته بالقرب من العمل الذي أحبته ووسط الناس الذين اختارتهم واعطتهم كل وقتها حتى فضلتهم عن حياتها الخاصة.

بالامس، انتخبت د.جين كالدر عضوا في المجلس اﻻداري بجمعية الهلال الاحمر الفلسطيني بالمؤتمر الثاني عشر.

مبروك لكالدر هذا النجاح والثقة وهنيئا للشعب الفلسطيني بهذه الأم الانسانة المناضلة التي اختارت أن تكون واحدا منهم، رغم كل شيء.

التعليقات