أوسعنا مؤتمر المنامة شتماً.. وماذا بعد؟

أوسعنا مؤتمر المنامة شتماً.. وماذا بعد؟
بقلم: د. وليد القططي

تراثنا العربي زاخرٌ بالأمثال الفصيحة، وثري بالحِكم البليغة، ومنها المثل المُعبّر الذي يحوي في معناه حكمةً قيّمة (أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل). وقصة المثل أنَّ رجُلاً أعرابياً كان يرعى الإبل لقومهِ، فأغارَ عليه مجموعةٌ من اللصوص، وأستولوا على الإبل وساروا بها، فلما تواروا عن الأنظار، صعدَ على تلةٍ وأنهال عليهم شتماً، فلما رجع إلى قومهِ سألوه عن الإبل فأخبرهم القصة، وعندما سألوه عما فعل ليمنع إستيلاء اللصوص على الإبل، قال لهم:" أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل" فذهبَ قوله مثلاً يُضرب على كل من يُقصّر عمله بالفعل ويطول لسانه بالشتم. 

الأكتفاء بالكلام دون الفعل، والاقتصار بالشتم من غير العمل، كتبَ عنه المفكر السعودي عبدالله القصيمي في كتابه (العرب ظاهرة صوتية) جاء فيه: "إنّ العربَ ليظلون يتحدثون بضجيج وادعاء عن أمجادهم وانتصاراتهم الخطابية حتى يحسبون أن ما قالوه قد فعلوه، وأنه لم يبقَ شيءٌ عظيم أو جيد لم يفعلوه لكي يفعلوه.. أليسوا قد قالوا ذلك لكي يعتقدوا أنهم قد فعلوه؟ أليسوا قد قالوه ليكون بديلاً عما يفعلوه؟!". وهذا الوصف للعرب رغم قسوته الشديدة وسخريته اللاذعة، فهو صواب على الأقل في أزمنة الهزيمة والانكسار، ومراحل الخيبة والانحدار، وعهود الفشل واستحكار العار. 

مفهوم الظاهرة الصوتية لما نقوم بهِ من ردات فعل كلاميةعلى الأحداث الكُبرى لا ينبغي أن يزعجنا ويضايقنا، وجميل لو استفزنا وأغاظنا، والأجمل أن يصدمنا ويوقظنا، لنُعدّل من طريقة تفكيرنا ومنهج سلوكنا، كي لا يصبح كلامنا والكثير من أعمالنا، مُجرد تفريغ الشحنات الانفعالية بالكلام، وتنفيس التوترات النفسية بالصراخ، وتحرير مخزون الغضب بالشتم، وإطلاق تراكم الكبت بالضجيج، وإخراج طبقات الضغط بالعجيج. وهذا لا يختلف عن الحقيقة التي يعرفها كل من ألقى السمع وهو شهيد، بأن هناك علاقة عكسية بين كثرة الكلام وطريق النجاح، بمعنى أنه كلما كثر كلام قومٍ وقل فعلهم يقل النجاح والإنجاز من الزاقع وينتقل إلى الخيال. 

مثل الأعرابي والإبل، ومضمون كتاب القصيمي، ومفهوم التفريغ الانفعالي، لا يبتعدوا كثيراً عن طريقة معالجتنا لمؤتمر المنامة الاقتصادي، باعتباره بداية انطلاقة الجانب الاقتصادي لصفقة القرن، عندما أوسعنا المؤتمرون شتماً- وهم يستحقون ذلك- دون أن نتبع ذلك ببرنامج عمل وطني موّحد ومستمر، وعندما قدمنا الاحتجاج بالصوت والرفض والصخب على الاحتجاج بالفعل الوطني والبرامج العملية، وعندما أفرغنا ما في داخلنا من غضب وسخط دون أن نستفيد من الإجماع الوطني الرافض لصفقة القرن في إعادة وحدتنا الوطنية وبناء مرجعية وطنية موّحدة، ولذلك سيكون كل هذا الجهد أشبه بـ(المولد) الذي يُشارك فيه الجميع، ثم ينفض ويخرج الناس منه بلا حمص. 

إن عقد عشرات ومئات المؤتمرات الصوتية، والورش الحوارية، والاجتماعات السياسية، والندوات الثقافية. وكتابة مئات المقالات والتقارير الصحفية، وإنتاج مئات البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وإجراء مئات اللقاءات والمقابلات مع السياسيين والخبراء والكتاب والمحللين... جهد مهم وضروري ومفيد لتعبئة الشعب والأمة لمواجهة مؤتمر البحرين ومُخرجاته السيئة، والتصدي لصفقة القرن ونتائجها الكارثية، ولكن كل ذلك سيظلُ حبراً على ورق، وصوتاً مُبعّثراً أدراج الرياح، وجهداً ضائعاً هباءً منثوراً، ما لم يتحوّل إلى خطوات عملية على الأرض، تبدأ بالالتفاف حول مرجعية وطنية واحدة ومشروع وطني جامع، ولا تنتهي إلاّ بالتحرير والعودة والاستقلال. 

كلمة أخيرة تعديلاً لما جاء في كتاب (العرب ظاهرة صوتية)، إن كان هذا الوصف يصلح في عهود الهزيمة والتأخر والهوان، فإنه لا يُصلح في عهود الانتصار والتقدم والعنفوان؛ فلم يكن العرب ظاهرة صوتية عندما حملوا رسالة الإسلام للبشرية، وحرروا شعوب الأرض من نير العبودية، وأقاموا حضارة تشع نوراً للإنسانية، وعندما نهضوا مُجدداً في العصر الحديث ليحرروا أنفسهم وبلادهم من الاستعمار. وبالطبع لم يكن الفلسطينيون ظاهرة صوتية وهم يفجرون عشرات الثورات والانتفاضات والهبات ضد الاحتلال البريطاني والصهيوني في الماضي، وبالتأكيد لم يكونوا كذلك وهم صامدون فوق أرضهم مقاومون لعدوهم في الحاضر، وقد وصفهم الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – في حديث شريف "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ".

التعليقات