لــمــاذا الآن؟

لــمــاذا الآن؟
عبد المجيد سويلم

تابعنا في الآونة الأخيرة (على مواقع التواصل الاجتماعي) "الكثير" الكثير من "الوثائق" التي "تدلّ" على أن ثمة "فسادا" مستمرا في مؤسسات السلطة الوطنية!

كما تابعنا ونتابع (تباعاً) بعض مؤشرات الفلتان الأمني، وبعض مظاهر العنتريات ذات الطابع العشائري أو الحمائلي.

وتابعنا ونتابع مظاهر (ليست بالقليلة) تنمّ عن بعض وربما الكثير من الاستهتار بالأعراف الوطنية، ومن بينها بعض مظاهر (التعايش) مع بعض فئات المستوطنين الذين يقطنون بجوار بعض القرى الحدودية في غرب رام الله، وفي مناطق أخرى.

وإلى من لا يعرف، فإن بعض المحال والورش في هذه المناطق تستخدم اللغة العبرية للتدليل على طبيعة عملها، ما يوحي بأن حالة من "التعايش" موجودة بالفعل في هذه المناطق، وأن أحداً لم يحاول الحدّ من هذه المظاهر، بدليل أنها تستمر منذ سنوات طويلة ويزداد انتشارها، ويزداد "التأقلم" مع وجودها.

وطبعاً نعرف جميعاً أن مشروع "منع" العمل في المستوطنات قد فشل، وأن العمل في هذه المستوطنات قائم على قدم وساق. 

ليس هذا فقط، وإنما يزداد عدد العمال في مستوطنات المناطق الحدودية يوماً بعد يوم، في إطار تزايد مستمر في أعداد العاملين الفلسطينيين في إسرائيل، وفي مناطق مختلفة، وليس فقط على تخوم "الخط الأخضر".

مسألة العمل في المستوطنات، وفي الاقتصاد الإسرائيلي لها أسباب موضوعية لا يستطيع أحد إنكارها، أو تفسيرها بمعزل عن هذه الحالة الموضوعية.

فارق الأجور، عدم وجود بدائل مجدية، والجدوى العالية التي تعود على الاقتصاد الإسرائيلي جرّاء زجّ اليد العاملة اليهودية في اقتصاديات الريادة، بما فيها وربما على رأسها التكنولوجية، وتحقيق قيمة مضاعفة عدة مرات، إضافة إلى إعادة تدوير هذه الأجور إلى الاقتصاد الإسرائيلي عَبر استهلاك البضائع الإسرائيلية التي تهيمن على السلع الاستهلاكية للفلسطينيين في أسواق الضفة الغربية.

وهذا الأمر كله وبرمّته يحتاج إلى معالجات خاصة، ومقالات خاصة مكرسة لهذا الأمر، إن لم نقل إنه يحتاج إلى أبحاث معمّقة وسياسات بديلة فعّالة.

أما ظاهرة "التعايش" مع بعض فئات المستوطنين في بعض المناطق الحدودية فإنها تكون أكثر خطورة عندما لا يتعلق الأمر "بالرزق"، ومحاولة استفادة بعض الورش والمحلات من فارق أسعار الخدمات والسلع، وعندما تتحول مثل هذه المظاهر إلى "دليل" على غياب السلطة الوطنية وعدم قدرتها على الفعل الأمني في بعض مناطق "ج".

ومع ذلك فقد ثبت أن هناك ما يكفي من التنبّه لأخطار الظواهر الاستعراضية الفاقعة من ذلك "التعايش".

وما الإجراءات التي اتخذتها "فتح" بعد حادثة "دير قديس" إلاّ الدليل الواضح على هذا التنبّه.

لكن الحديث المتواتر عن "الفساد" في مؤسسات السلطة، و"دعم" هذه الأحاديث بـ "الوثائق" التي ثبت أنها مزوّرة بالكامل يجب أن يشكل بالنسبة لنا جميعاً جرس إنذار مبكر.

الحديث المتزايد عن الفساد في السلطة ليس بريئاً على الإطلاق لا من حيث التوقيت ولا من حيث الوسيلة، كما أنه ليس بريئاً من الاستهداف المباشر.

من المؤكد أن مؤسسات السلطة الوطنية ـ مثلها مثل أي سلطة في هذا العالم ـ تعاني من مظاهر تنطوي بشكل أو بآخر على نوع أو أنواع من الفساد.

ومن المؤكد أن هذه المظاهر قد أصبحت ثانوية وفرعية وهامشية مقارنة بالمراحل السابقة، وخصوصاً السنوات الأولى من عمر مؤسسة السلطة الوطنية.

لكن المؤكد هنا أن عملاً يجري على قدم وساق لتصوير هذه المظاهر وكأنها "المسألة" الأكبر، والأكثر أهمية وخطورة على حياة الفلسطينيين، علماً أن ما تم تداوله على هذا الصعيد، يعتبر "فكّه" أو "شويّة فراطه"، بالمقارنة مع مظاهر الفساد الموثقة في إسرائيل وفي المحيط العربي والإسلامي كله بل وحتى العالمي.

وعندما تنبري مؤسسات إعلامية إسرائيلية، وتكرّس كل جهودها، للحصول على "وثائق" تؤشر وتدل على "فساد السلطة"، وعندما تتعاون هذه المؤسسات الإعلامية مع شركات إنتاج إقليمية (تركية وقطرية)، وعندما نعلم أن عشرات ومئات المواقع ليس لها غير وظيفة واحدة: النيل من سمعة السلطة ومحاولة تلطيخها بأحطّ الوسائل وأحقرها فأنا ـ وأفترض أن غيري كذلك ـ لا أستطيع، ويجب ألا أجاري وأنجرّ وأنضمّ إلى جوقات الردح التي شاهدناها وقرأنا ما تداولته وحاولت الترويج له بكل خسّة وابتذال.

يبدو أن وتيرة الهجمة ستزداد مع "تقدم" و"تأخر" مسار "صفقة القرن"، ومع تزايد وتصاعد التلاحم الشعبي في مواجهة "الصفقة" والتصدي الفاعل لها.

وهي تترافق على كل حال مع الحصار الذي تتعرض له السلطة، ومع التهديدات والابتزازات التي بتنا نعرفها جيداً.

إذن المسألة ليست بريئة، وليست مجرّد تداول عادي على هذه الوسيلة أو تلك من وسائل التواصل الاجتماعي، وإنما هجوم منظم ومخطط ترعاه إسرائيل من خلف الأبواب، وتنفذ سيناريوهاته الكبيرة وسائل إعلام وشركات إنتاج متخصصة، ويتم تداوله وترويجه بسوء نية أحياناً وبحسن نية في أحيانٍ أخرى.

ما يبعث على الأسى ليس وجود هذا النوع أو ذاك من الفساد في مؤسسات السلطة (فهذه مسائل متوقعة وتكاد تكون ملازمة ومرافقة لكل سلطة) وإنما غياب الرادع القانوني الحاسم أو ضعفه على الأقل.

لو أن الردع القانوني والمحاسبة والرقابة وتحويل كل مؤسسة، صغيرة كانت أم كبيرة إلى مؤسسة قابلة للمحاسبة بصورة اعتيادية ويومية ومستمرة لما أمكن لكل هؤلاء أن يلعبوا أو يتلاعبوا بورقة "الفساد" كما يحاولون ويعملون اليوم.

لا يجري ذلك كله بالصدفة، ويجري الآن بالذات ليس لأن لدينا فسادا ـ لأن الفساد موجود فعلاً، بصرف النظر عن أحجامه وأشكاله، وإنما لأن الهجوم على السلطة الوطنية بدأ، والهجوم كاسح وكبير، وإسرائيل تعرف أكثر من أي وقت مضى حاجة السلطة إلى دعم الناس في معركة المواجهة القادمة، ولهذا بالذات يجري الحديث عن الفساد الآن. 

وأغلب الظن أن الاحتلال وشركاءه يعدون لهجومهم على جبهات عدة، ومنها جبهة "الفساد. أما جبهة الفلتان الأمني فهي قادمة لا محالة، وستأخذ أشكالاً في منتهى التنوّع، وستدخل الحمائلية والعشائرية على الخطين معاً. ذلك أن المعركة القادمة على ما يبدو ستكون حتماً متعددة الجوانب والجبهات، وأسلحة الدمار الشامل الحقيقية التي سيتم استخدامها في هذه المواجهة هي النيل والعمل على تفتيت النسيج الوطني والاجتماعي، ومحاولة تهميش الهوية الوطنية الجامعة.

التعليقات