"أصوات من طوباس" لـ"الإعلام": شهادات النكسة: نهر وعطش و"توجيهي"

رام الله - دنيا الوطن
أعادت الحلقة (119) من سلسلة "أصوات من طوباس"، التي تنظمها وزارة الإعلام في محافظة طوباس والأغوار الشمالية سرد روايات شهود تجرعوا مر نكسة عام 1967.  وبث الثمانيني نصوح جميل أبو الهدى، قبل أشهر من رحيله، مشاهد مؤلمة لسقوط طوباس بيد جيش الاحتلال، الذي تقدم من ناحية سهل رابا وأراضي عقابا، عبر طرق فرعية، بعيدًا عن الشارع الرئيس.

وروى: كنت شابًا حين كنت أشاهد أحد جنود الجيش الأردني يطلق النار على إحدى طائرات (ميراج) للاحتلال، دون أن يستطيع إسقاطها، ورأيت كيف أن أهالي عقابا هربوا إلى طوباس، ونحن تركنا بيوتنا واجتزنا نهر الأردن؛ خوفًا مما كان يشاع عن تكرار الاحتلال لما حدث في نكبة عام 1948 من قتل ومجازر واغتصاب للنساء.

وبحسب الراحل أبو الهدى، فقد شاهد مركبات ومدرعات للجيش الأردني محترقة على جانبي الطريق في مناطق الأغوار، فيما انتشر نبأ استشهاد ابن طوباس الشاب عطا الله التوفيق، الذي كان يعمل في الشرطة بنابلس، وأطلق النار من مسدسه على طائرة إسرائيلية، ظنًا منه أنه يستطيع إسقاطها، فأطلقوا عليه قذيفة قتلته على الفور، ودفنه أهالي قرية طلوزة على مقربة من الشارع الرئيس الموصل لنابلس، كما استشهد على صوافطة وأمين عطا الله ومصطفى محمد علي.

قصف

وتابع: بعد اجتيازنا لنهر الأردن (الشريعة) كنا نشاهد مركبات للجيش العراقي أيضاً وهي تحترق، وسمعنا أصوات الطائرات التي تقصف من بعيد، وعرفنا عن قصف الاحتلال لشاحنة كانت تحمل عائلة شهيل، التي فقدت إحدى بناتها وأصيبت الأخرى بشظية بترت ساقها. وكان الناس متفرقين في جماعات، واستشهدت جواهر صوافطة من العطش ونحن نهرب نحو الأردن، وخرج الكثيرون من أهالي المدينة، ومن بقي فيها احتمى بالكهوف.

وتبعًا للراوي، لم يسمع الأهالي بمقدمات عن الحرب، وكانوا يظنون أن الجدار الذي أقامه غلوب باشا (قائد الجيش الأردني قبل تعريبه)، في سهل عقابا، وصولاً إلى الغور، يهدف إلى تقسيم البلاد. وقد عمل شبان من طوباس في تشييده، مقابل 20 قرشًا في اليوم.

وأردف: هربنا في سيارات، وبعضنا فر مشيًا على الأقدام، وبحثنا حين وصلنا النهر عن أضعف مكان فيه، وقطعنا من جهة (مخاضة الجليدية)، وشاهدت بعض الشبان يجتازون "الشريعة" سباحة.

واستجمع أبو الهدى، مشاهدات المركبات المحترقة، والبيوت المهدومة، وتنقله بين الضفتين، وصولاً نحو المخيم المؤقت في نواحي الزرقاء، وقراره العودة لبلدة بعد نحو ثلاثة أشهر، بالطريقة نفسها، التي غادر بها خوفًا.

شائعات

واستجمع الثمانيني راتب أحمد صوافطة ما حل بطوباس قبل النكسة، حين راجت شائعات في عموم الضفة الغربية وغزة عمومًا حول ما يفعله جنود الاحتلال بالنساء والأطفال، ما أجبر نسبة كبيرة من المواطنين على ترك بيوتهم.

وأفاد: لم يبق في المدينة غير عدد قليل من الرجال، الذين احتموا في كهوف أو خرجوا إلى خرب قريبة تابعة للمدينة في الأغوار، في وقت بدأ أصحاب سيارات الشحن ينقلون الفارين من ديارهم نحو الضفة الشرقية، وقبل وصولهم نهر الأردن كانوا يجبون على اجتيازه مشياً من مناطقه قليلة العرض أو سباحة.

واستنادًا لصوافطة، فقد رحلت جواهر صوافطة عطشًا في الأغوار، قبل بلوغ نهر الأردن، فيما أغارت طائرات الاحتلال على سيارة كانت تحمل عائلة شهيل. وكان يشاهد الآليات العسكرية المحترقة على طول الطريق، وكان يستقل مع جيرانه سيارة نمر الحسن. وعند فصايل احتمى ومن معه بحقل ذرة من الطائرات، التي كانت تملأ السماء.

وزاد: دخل جيش الاحتلال من جهة عقابا، وظن الأهالي الذين بقوا في طوباس أنهم من جنود الجيش العراقي، فأخرجوا بعضهم الطعام لضيافتهم، قبل أن يكتشفوا أنهم جنود احتلال، سرعان ما صاروا يفرضون حظر التجوال، وسمعنا عن توزيع اليهود الحلوى على الأطفال. وقد دخل الجنود الأغوار من نواحي بيت لحم والقدس وليس من طوباس.

وباح: خسرت طوباس خلال النكسة معظم أراضي، وهدم الاحتلال الكثير من القرى والخرب التي كان يستخدمها الأهالي للزراعة وتربية المواشي، وقصف الاحتلال آبار المياه في قرى الساكوت والدير، وهدم أجزاءً من عين البيضاء. وعاد نحو 45% من الأهالي بعد النكسة بأسابيع أو أشهر قليلة، فيما ظل الباقون في الأردن ودول الشتات.

"توجيهي"

وقال التسعيني راضي عبد الله فقهاء: لم نكن نتوقع أن تسقط طوباس بأيام قليلة، وكنا نذهب إلى بيت المختار أنيس المحمود لسماع الأخبار، وكنا نظن أن فلسطين كلها ستعود، وفي يوم الخامس من حزيران تركت بيتي في الصباح الباكر، ووضعت في جيبي ما أملكه من مال، وتوجهت نحو الغور، من وادي المالح ومنطقة الحمامات، وسمعنا أصوات انفجارات.

وزاد: كان الفارون يمشون في مجموعات صغيرة، وبعضهم استقل سيارة، أو سار على قدميه، ليبحث عن أقل منطقة عرضاً في النهر، وقطعه آخرون سباحة، وقد كان الناس خائفين، وبعضهم حمل معه أمتعة. وأقمت أسبوعًا في الضفة الشرقية، وعدت متسللاً إلى طوباس، التي فقدت غورها وأرضها.

وباح فايز أبو ناصرية، قبل أسابيع من رحيله: قطعت أخبار النكسة امتحاناتنا، ولم نتقدم لمبحثين،  وحين عدنا من نابلس إلى طوباس شاهدنا جوانب الطريق مليئة بالناس، وكأنهم ينتظرون لحظة انتصار. وعندما دخلت بلدنا، رأيت الكثير من الأحداث كانقلاب مدرعة للجيش الأردني، وفرار الناس. أما أخي فترك صهريج الكاز الذي كان يعمل على توزيعه، وقاد سيارة وراح ينقل النازحين إلى الأردن، وانتظرنا عودته ليأخذنا، لكنه تأخر، فخرجت مع أمي وأخوتي الساعة الخامسة صباح السادس من حزيران، ومشينا من وادي الفارعة القريب من نابلس، وأخذنا استراحة بمغارة قرب النصارية، وتابعنا حتى جسر الملاقي ورفضنا الركوب، ووصلنا بعد المغرب. كنا نشاهد الجثث على الشارع، ولا ننسى الجرحى وبعضهم كانت أمعاؤه خارج جسده."

 وبحسب أبو ناصرية، فإنه بات ليلة داخل الأراضي الأردنية، وبالقرب من جسر دامية، حتى صباح اليوم التالي لسقوط البلاد، وواصلوا السير، وركبوا من السلط حتى توقفوا ببيت عمهم في عمان. بعدها، اعتاد أبو ناصرية التنقل بين الضفتين، وصار خبيراً بالدروب، والمناطق الضعيفة في نهر الأردن، وحفظ مناطق وادي اليابس، وعين البيضاء، عن ظهر قلب.

وأنهى: في إحدى المرات، لما قطعنا الطريق بجوار قرية بردلة بغور الأردن، وصل خبر لأمي أنني استشهدت مع 17 شابا من بلدتنا، ولم يًوقف دموعها وحزنها الشديد غير عودتي سالماً، حينما أُغمى عليها. وتغير حال نهر الأردن اليوم كثيراً، ويكاد أن يجف، والسبب أيضاً الاحتلال. ولم أكن أصدق أثناء سفري لعمان، الحال الذي وصل إليه النهر.