محاولة "فك شفرة" الرموز الدينية في شريط "الام" (ماذر2017)

فيلم جديد مثيرللجدل للمخرج دارين ارونوفسكي:
*"خافير بارديم" بدور "القدير": كما يتضح ذلك جليا في نهاية الفيلم، انه بمثابة تجسيد سينمائي سلوكي للقدير، شعره هو كلماته، ومنذ البداية عندما يضع الكريستال الخاص على الركن المحدد في الغرفة التي لا يسمح لأحد غيره بدخولها، وقد سبق وجوده الكوني "الام"، وحيث يمارس دراسته وابداعه في الطابق الثاني، بينما ينام مع زوجته في الطابق الثالث...انه الرجل"الأوحد" في الأعلى.

*"جنيفر لورانس" تمثل دور الطبيعة الام: ويمكن لأدائها كام ان يؤخذ بعدة طرق، فقد ترمز "للروح القدس" كجزء من الثالوث المقدس، ولكن الأكثر معنى يكمن بكونها تمثل "الطبيعة الام"، وكما تقول شخصية "بارديم" فهي "تتنفس الحياة في المنزل"، اما المنزل فهو يمثل بأكمله "قناة التواصل مع العالم"، وسوف نرى كيفية ارتباط الام بالمنزل، حيث يبدو وكانها تعامله ككائن حي وتستمع له، كجزء متكامل مع وجودها.

*"المرأة والرجل" الضيوف هما آدم وحواء:

الممثل "فاد هاريس" يلعب ببساطة دور الرجل في الشريط، ممثلا لشخصية "آدم" في الكتاب المقدس، وهو ينجذب بسرعة مع شخصية "بارديم"، الذي يظهر له التفاصيل وطرق الخلاص (العالم)، كما يكشف "الفاكهة المحرمة" في شجرة المعرفة (تلك التي طردت آدم من الجنة)، انه "الكريستال" الذي يحتفظ به في مكتبه، محذرا اياه من لمسه في الليلة السابقة لوصول زوجته، وقد بدا "هاريس" مريض جدا وبحاجة لعناية، تظهر للام (جنيفر لورانس) كدمة حمراء كبيرة على جنبه يحاول اخفاءها فورا، انها بمثابة "مكان الضلع الذي ازيل لتخلق منه حواء"...أما "ميشيل فايفر" التي تصل متاخرة في اليوم التالي، فهي بمثابة حواء ويشرح المخرج "ارونوفسكي" قائلا: "هكذا بدأت الامور وهكذا انتهت بهذا الشكل، فهما معا في "الام"، حيث لم يلتزم الرجل ولا المراة بأمر الرب، ولمسا الفاكهة المحرمة (الكريستال) وكسراها، ثم فقدا براءتهما تماما مثل آدم وحواء"!

*أما حقيقة رؤية الام للرجل والمراة وهما يمارسان الجنس في غرفتهما بعد كسرهما للكريستال، فهي تعكس حقيقة ما ورد في "سفر التكوين"، عندما أكل آدم زحواء من الفاكهة المحرمة في الجنة المقدسة، ثم تعرضا بعد ذلك لتجربة "الصحوة الجنسية" والسقوط للعيش في الأرض.

*تشابك وصراع الأخوين "قابيل وهابيل": فوسط هذا الجنون المتصاعد، يظهر فجاة الأخوان ممثلان بالشقيقين "دومنهال وبريان جليسون (ابنا فاد وميشيل)، وهما يمثلان بوضوح هنا "قابيل وهابيل"، ثم يتجادلان بحدة على الميراث وارادة والدهما المنحازة، مع أنه ورد في الكتاب المقدس أنهما تقاتلا من أجل "امرأة"، ثم يقتل الأخ الأكبر الغيور الحاقد شقيقه الأصغر.

*انفجار انبوب المياه هو رمز "للطوفان الكبير":

ففي أعقاب مقتل الأخ الأصغر، يمتلىء منزل الام بعدد كبير من الضيوف الغرباء "الغير ودودين"، بغرض العزاء والمواساة، ويبدو معظمهم وقحين وقليلي الاحترام، والام تحاول جهدها لكي تجذبهم لكي يصغوا اليها، ولكنهم يتجاهلونها. وحيث يحدث معظم التوتر حول بالوعة المغسلة "المخلوعة تقريبا" والتي بحاجة لاصلاح لتثبيتها للجدار، وفيما تحاول باستمرار تحذيرهم لتفادي الجلوس عليها، ولكنهم يتجاهلون ذلك باستهتار ولامبالاة، الى ان تنكسر الماسورة وينهار الجدار وتتدفق المياه بغزارة حيث يحدث طوفان عارم يجبر الجميع على المغادرة والهروب عاجلا...في اشارة مجازية واضحة لقصة سفينة نوح والطوفان العظيم، حيث تصرخ الام بأنها سوف تتولى الأمر لتجنب الخراب، والمقصود الموت والفناء الناجم عن عبث الضيوف واستهتارهم.

*شخصية "القدير" تكتب العهد الجديد او الكتاب المقدس كله:

تحمل الام أخيرا بفضل ليلة عاطفية حميمة مع الزوج، والغريب أنها تتوقع الحمل فورا، ويحدث ذلك سريعا، ثم فجأة تاتي له الأفكار الابداعية التي كان يفتقدها طوال فترة طويلة من هذه العزلة المقصودة، فيبادر بالكتابة بحماس لا ينقطع، والمفترض أن يكون هذا "كلام القدير الجديد"، وقد يكون هذا هو "الكتاب المقدس" في مجمله، ومن المفترض ان يكون ذلك عملا "جميلا ومتكاملا" ولا مثيل له، وكرمز لكلمات القدير وهدايته للبشر أجمعين، وهذا ما يقود (على غير المتوقع) للفوضى العارمة النهائية في مشاهد آخر الشريط، في هذا السياق تلعب الناشرة هنا "كريستين ويغ" دور النبي، حيث تكمن وظيفتها بتلقي "كلام" القدير (شعره الابداعي )، ونشر "انجيله" للبشر الآخرين التائهين في العالم.

*مشهد ميلاد وموت "المسيح":

يمتلىء العالم هنا "الممثل بالمنزل القديم الجميل" مرة اخرى، وبأعداد غفيرة من البشر والدهماء، وتسود الفوضى العارمة والضوضاء، حيث نرى الجوانب الحالكة القاتمة للطبيعة البشرية: حيث يتدافع هناك أصحاب الوحي والنبلاء  والأنبياء الكذبة والأدعياء والمنافقين والمجرمين واللصوص، كما تحدث صراعات وحروب  وغارات وعمليات نهب واعدام وتخريب، وتتشكل الفرق الطائفية والاثنية وعصابات المتعصبين، كما تحدث الانفجارات والوفيات والخراب والأهوال في كل مكان...لكن في نهاية المطاف، يتم انقاذ الام من قبل القدير، وتلد بعد المخاض الصعب والألم والمعاناة طفلا رضيعا جميلا (بكاؤه يمثل صوت الحياة وصوت الانسانية)، وتريد ان تحتفظ به لنفسها ولا ترغب ابدا بتسليم طفلها للزوج الأناني المتعاطف مع الجموع الهائجة، كما لا تريد ابدا ان يشاركها الآخرين فيه، ولكنهم راغبون برؤية الابن بشدة محدثين الهياج والضوضاء، وعندما تنهار وهلة من التعب الشديد، تسرق شخصية "بارديم" الطفل الرضيع بغتة ويسلمه للجموع الهائجة، فتفيق الام مرعوبة، ثم ينتقل الرضيع بين الآيادي الوحشية المتلهفة ويقتل ويتم تمزيقه واستهلاكه...الابن الوليد هنا يمثل المسيح الذي تمت التضحية به للخلاص من ذنوب الآخرين وكشفاعة لخطايا البشر عامة، وحقيقة أن جميع الناس ياكلونه هنا تمثل رمزا لمشاركة البشر آجمعين في الآثام والمعاصي، ويتمثل ذلك جليا بطقوس الكنائس من تقديم للخبز المقدس والخمر كرمز أبدي لجسم ودم المسيح.

*الانفجار النهائي للمنزل يمثل نهاية العالم: فبمجرد فقدانها لابنها الوليد، تجن الام وتسعى للانتقام من اولئك الأوغاد الذين سرقوا طفلها وقتلوه، هكذا تنتقم "جنيفر لورانس" ممثلة لغضب الطبيعة العارم الذي لا يرحم، حيث تقاتل بشراسة كل هذه الحثالات البشرية الذين اخذوا منها كل شيء ودمروا بيتها وحياتها وقتلوا وليدها، ولكنهم ينجحون باسقاطها ارضا وضربها بشكل مبرح مميت، ثم تاتي شخصية "بارديم" لانقاذها مرة اخرى، لكن من الواضح  انها وصلت لذروة الغضب والنقمة، فتذهب مسرعة للطابق السفلي وتفرغ كميات كبيرة من وقود التدفئة وتحرق المنزل ومن فيه، متسببة (مجازا) بالجحيم و"نهاية العالم"، فهي بذلك تحرق كل الكائنات الحية حيث لا يبقى بعد ذلك سوى الأرض المحوقة والخراب.

*النهاية الكارثية المجنونة تمثل (في المشاهد النهائية) ولادة "عالم الله" الجديد، حيث يتبقى فقط اثنان من الناجين: الام والقدير، حيث تمنحه الشيء الوحيد الذي تبقى لها وهو "قلبها"، ومع هذه النهاية "الرمزية" يمكن للعالم ان يبدأ بشجاعة من جديد...ويتم التاكيد هنا مجازا للمعرفة الكونية المطلقة، حيث لا وجود للزمان، مما يؤكد "يد الله العليا" في المكان والزمان التي نعجز كبشر من فهمها، ملمحا للمعرفة الربانية الشاملة والمحيطة بكل شيء!

*سيريالية مجازية وتساؤلات بلا اجابات شافية وفوضى وتدحرج سردي متضخم:

لكن كل هذه الطروحات المجازية الرمزية المباشرة لا تجيب على العديد من الأسئلة الهامة، ومنها ان الشاعر المنعزل المحبط  الذي يفتقد للالهام، قد كان مشهورا بفضل اصداراته السابقة، والدليل وجود صورة له ضمن مقتنيات حقيبة الضيف العجوز المريض الذي حل زائرا بلا سابق ميعاد، ثم هل كان "آدم" عجوزا ومريضا ومشرفا على الموت؟ وهل كان مدمنا على التدخين هو وزوجته المتوسطة العمر والجريئة والسليطة اللسان والفضولية؟ ولماذا اقدمت "الناشرة" على اعدام الفوضويين هكذا باطلاق النارعليهم بدم بارد، فهل هكذا يفعل الأنبياء بمواطنيهم وحتى لو كانوا ضالين، ام يصبرون عليهم لهدايتهم؟ بينما تناقض نفسها عندما تبلغهم في البدء: "انه الشاعر لن يتخلى عنكم"!...ثم لماذا يندفع الأشخاص للمنزل لدخول هذا المنزل بلا دعوة، ويرغبون بالخلوة في الأرجاء لممارسة الجنس والعبث بالممتلكات وسرقة بعض المقتنيات كذكريات*، ولا يعيرون صاحبة المنزل الاهتمام والاحترام بحده الأدنى؟...وأشعر وربما كنت مخطئا أن المخرج قد تورط بعجالة أثناء اخراجه لهذا الفيلم الذي بد عاديا ومشوقا وترفيهيا، ثم تورط في سرد سينمائي "رمزي –ديني" وربما سيريالي فريد من نوعه، ولم يعد يعرف كيف يخرج منه فانغمس بمشاهد فوضوية-كارثية مرعبة، وربما وجد خلاصه أخيرا باعادة الامور للبدايات، وأشعرنا وكان البطلة قد أفاقت اخيرا من كابوس مرعب وبحثت عن زوجها الذي أصابه القلق لانعدام الالهام وعجزه عن اتمام ديوان شعر جديد...لكن لماذا عاد كل شيء لوضعه الأصلي بعد الدمار الساحق الذي اصاب المنزل، بمجرد اعادة تكوين البطل "للكريستال" المحطم، وما علاقة الجوهرة بقلبها الذي انتزعه من صدرها، وما علاقة كل هذا بتفاحة آدم التي حرمته من الجنة وأنزلته مع حواء للأرض؟ وكيف يمكن لهذا الطرح المجازي ان ينسجم مع قصة الخلق؟ ثم لماذا لم ترغب البطلة ابدا بأية مساعدة في ترميم ودهان المنزل الكبير العتيق ولا حتى من زوجها؟ وبالحق لا يمكن ابدا انكار قوة الطرح السينمائي الشيق من الناحية الفنية البحتة، ولا الرموز المجازية الدينية المعبرة في هذ الشريط الشيق "المنجز جيدا" بشكل متكامل، والذي بدا عاديا ومنطقيا وانتهى خياليا وسيرياليا وغامضا، كما أني استغرب بالحق كثرة تبجيل هذا الشريط ورفعه لمستوى التحفة السينمائية الفريدة (كما ورد في المراجعات النقدية بموقع الطماطم الفاسدة المتخصص بالنقد السينمائي)، فيما يندفعون بحماس ناقدين فيلم "جورج كلوني" الأخير "سوبوربيكون"، باحثين فيه عن الهفوات الاخراجية والتفكك السردي، فيما وجدت فيه ابعادا فنية سينمائية لافتة، وسردا متوازيا ومجازا ذكيا يستند لقصة تاريخية حدثت في نهاية خمسينات القرن الماضي بموازاة جريمة عائلية غامضة، والناقد السينمائي الحصيف حسب وجهة نظري المتواضعة يفضل أن لا ينجر ابدا وراء "شغفه وحماسه وعواطفه السينمائية"، بل عليه ان يستند للتأمل والحياد والتحليل البارد "الغير متحيز" للعرض السينمائي، مبتعدا عن تقديس الأشخاص وشيطنتهم، ومتجاهلا "ازدواجية المعايير" بطريقة النقد والتحليل، فهذه سينما وليست سياسة!

مهند النابلسي/باحث وناقد سينمائي/[email protected]

 

التعليقات