هي القدس وأنا الظمآن لها وأنتم

هي القدس وأنا الظمآن لها وأنتم
هي القدس وأنا الظمآن لها وأنتم
تحسين يقين

ظمأ على ظمأ في هذا اليوم الخماسيني!

لكنني وأنا العارف ببعض سحر المدينة وأسرارها سأعرف أين أمضي سحابة نهار حار، حيث أن المصمم العمراني استطاع عمل تهوية لا مثيل لها، حيث نسعد بنسمات باردة استطاعت البقاء هنا رغم شدة الحر، من خلال فكرة هندسية لها علاقة بتمرير الهواء وفعل التبريد كأنها مكيف حديث.

لنا طريق باب فيصل، غير المزدحم المميز ببرودة تبعد الكثير من الظمأ، ومن خلاله تطل قبة الصخرة فتضيء الجزء المعتم هنا، تصير القبة والسماء فضاء لنا.

فقط هنا اسعد بالهواء المبرد، ومشهد النور هناك أمامي، وسيكون هناك مجال بعد ساعات للتجوال هناك، بروح وقلب وعين وتذكر.

لماذا، كلما زرت القدس، أحاول أن أحتويها بكل مشاعري وجوارحي؟

أحتار أي الدروب أسير؟ وبأيها أزهد؟

وأتساءل، وأنا الظمآن للقدس: هل من مكان، هنا، داخل البلدة القديمة، وخارجها، لم أزره، من قبل؟ فأكتشف أن هناك المزيد من الأماكن التي عليّ أن أزورها، وأكتب عنها.

أحتار بين الأماكن التي آلفها، والتي لي فيها ذكريات طفولة وشباب، وتلك التي لم أعرفها، أو إنني مررت، مسرعاً، في يوم حار، أو ماطر، أو يوم ريح.

سأسعد، في الطريق، إليها، كأم، أو كأب، أو كحبيبة، أو ابن.. سأتأمل المباني، على جانبي الطريق، ثمة محلات جديدة في بيت حنينا، وثمة طوابق ما بين الثاني والرابع، أو أكثر قليلا، أكيد «نشّفت» ما يسمى «بلدية القدس» ريق أصحاب العمارات: فبلدية الاحتلال مشغولة بغير المقدسيين، إلا أن تمارس مخططات تهجير، أو تقزيم لطموحات الناس، بأن يكون لهم فضاء عادي يناسبهم، في البيوت والشوارع والمباني والمؤسسات والحدائق والملاعب والمسارح.

لم أدخل بستان قبر السيد المسيح غير مرة أو مرتين، الذي يقع مقابل الكراج الجديد: ذلك الكراج الذي ظل يكتسب وصف الجديد، رغم مرور 40 عاماً على إقامته. والسبب يعود إلى الإصرار على جعل المدينة متأخرة، لا تتقدم، مثل سائر المدن. قادتني قدماي هذه المرة الثالثة، المكان هادئ ليس هناك الا الأشجار والطيور. 

أتأمل العمران، أعيد قراءة الطابع المعماري خارج البلدة القديمة، فأجد نفسي مكررا لما أقوله، التعرف إنه الأسلوب الكولينيالي، في البناء، والذي ارتبط ببناء القدس، خارج السور، منذ أواخر القرن التاسع عشر. فيبدو أن هذا الأسلوب، الذي انتشر في بلاد الشام، ومصر، وشمال أفريقيا، قد ظهر، هنا، في القدس، وفلسطين، بشكل عام، حتى قبل الاحتلال البريطاني لبلادنا. ولكن لأنها القدس بكل هذا الغنى، فقد اندمجت الأساليب الوسيطة والحديثة، أتأمل المدرسة الألمانية ـ «كلية شميدت» الكبيرة، والتي، لا شك، كان بناؤها، قبل قرن، شيئاً مميزاً لأهل القدس، فأحس أنني في بلد أوروبي: كلا المربعين تم بناؤهما قبل حوالي القرن، وهي تتميز، جميعاً، بشبابيك واسعة وسلالم واسعة رحبة، حتى التي بنيت بعدها، في الثلاثينيات والأربعينيات (من القرن الفائت) ظلت تحتفظ بهذا الاتساع.

هذا فيما يخص معمار المؤسسات الذي يبدو أنه لاقى استحساناً، مع تغير حياة البشر، بالاتصال مع الغرب، والذي صار يناسب الأسر المدينية.

سأتناول مساء طعاماً شعبياً، واقفاً في باب المصرارة، وسأحاول قراءة النقش، على باب العمارة التي على الزاوية، والتي افتتح فيها محل كنافة، مقترباً من مكان بيع الجرائد والمجلات، حيث اعتدت، طفلاً، شراء جريدتي «الشعب»، و»الفجر»، بتشجيع من أخي نصّار.

في طفولتي، في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، كنت أقرأ جريدة الشعب، وأحب، في كل مرة، قراءة بيت شعر: «إذا الشعب، يوماً، أراد الحياة ـ فلا بدّ أن يستجيب القدر»، من قصيدة «إرادة الحياة»، للشاعر التونسي، أبي القاسم الشابي، ثم لأتذكر أنني تعلمتها، طالباً، وعلمتها، معلماً، للغة العربية. لكن ظل، لقراءة هذا البيت، وقع خاص عليّ. إذن، فقد بدأت بشراء الجريدة، مبكراً: جيد هذا الوعي.

لا بائع جرائد، ولا صحف، لكن ذكريات تثير في النفس، بهجة وحيوية، فأرى نفسي واقفاً، هناك، أشتري صحيفة، أو كعكة، أو عرنوس ذرة مسلوقا مملحا. أكاد أقترب من الطفل الذي كان هنا، يوماً، فأشعر به داخلي. ثمة طفل يكابر، لا يريد مغادرة ملاعب الطفولة وتجاربها.

كنت، وقتها، أعجب من أطفال القدس.. من البائعين المتجولين، أدهش لجرأتهم، وشخصياتهم الاجتماعية، وحضورهم، وثقتهم في أنفسهم، لكنني كنت أقرأ مسحة من البؤس، في وجوههم. كنت أشتري منهم، بما يمكنني: فشراء الطفل من طفل، مثله، له شعور مختلف. وعندما كبرت اعتدت الشراء من الأطفال، وآثرت ذلك، ربما، استمراراً لسلوك الطفل، فيّ.

ليس هناك ما أقوله، هنا، لكن لي ما أتذكره، أو أتأمله.

القدس كما كانت، يوماً ـ كيف كانت؟ هل من صخر، وحجارة قديمة تدل عليها؟ نعم، هناك، في مقطع السور القريب من بصري، مكعبات حجارة كبيرة مبنية على الصخر، فالصخر هو جزء من السور.. هو الأساس.

حجر، على صخر، حجر كبير مصفوف، مع حجارة مكعبة.. واكتمل السور، وصار مدينة: تاريخاً: تاريخاً للحرب، وتاريخاً للسلم، وتاريخاً للمعمار.

كنت أحب القدس، كثيراً: أولاً، بوصفي قروياً يحب المدينة، وثانياً، بوصفي ولداً فلسطينياً يرى، في المدينة، مركزاً للعمل الوطني والثقافي، وثالثاً، بوصفي ممن يقدس المدينة. وكنت أحبها: لأن منها، دائماً، كان يأتي الفرح، على شكل مُلَبَّس، وحامض ـ حلو، وكعك، وقصص رواها الأطفال الذين شاهدوا أفلام بروس لي، وكنج كونج، وسعاد حسني، وعبد الحليم حافظ.

أي الدروب سنختار للعودة، من بعد تغير الطرق؟ هو شعور: لا علم، ولا معرفة: هو خيال: هو حب: هي قدس، وهي روح، ورائحة تكون.

اخترت درب والدي الذي كان يؤثر الطريق غير المزدحمة، على وقع خطوات ابي رحمه الله أسير، وعلى خطوات طفولتي، هناك أرتقي لأطل على المدينة، وصولا للزاوية الهندية، ثم خروجاً من باب الساهرة، مقابل مبنى البريد بما يذكرني من رسائل عزيزة كانت تصلني، ثم إلى مشروب اللوز البديع في محل «الأرز»..هل سأسأله عن سبب التسمية؟

أما محل القطايف هنا فما زال طابور الواقفين عليه طويلا..أي سرّ في تلك القطايف!

لذلك حديث آخر.
[email protected]

التعليقات