محسنة توفيق

محسنة توفيق
محسنة توفيق

عبد الغني سلامة

عن عمر ناهز الثمانين عاما، وفي أول يوم من رمضان، غادرتنا إلى مثواها الأخير الفنانة القديرة محسنة توفيق.. بعد أن ودعت زوجها قبل عام.. وبرحيلها يهوي نجم آخر من سماء الفن العربي.. ويبدو أن جيل الفنانين الكبار الذين نشأنا على فنهم، وكبرنا معهم، يكاد يختفي، فها هم يغادروننا واحدا تلو الآخر. 

قبل فترة، وأنا أشاهد فيلما عربيا أُنتج في السبعينيات، لاحظت أنَّ جميع من ظهروا في الفيلم تقريبا توفاهم الله.. هؤلاء الفنانون، صنعوا للسينما والمسرح والدراما التلفزيونية أجمل وأهم مراحلها على الإطلاق، وطالما أثاروا فينا الشجون، وأعطونا الكثير من الفرح، ومنحونا أجمل الذكريات. 

في العام 1990، كنا في معتقل سواقة الصحراوي، في ذلك العام أتى رمضان في الربيع، في تلك الظروف الصعبة، كانت تسليتنا الأهم، والوحيدة تقريبا هي التلفزيون، ومن حسن حظنا أن التلفزيون الأردني عرض في ذلك الشهر الفضيل موسما جديدا من المسلسل المصري الأشهر «ليالي الحلمية». 

كان موعد المسلسل مقدسا، لا يخلفه أحد، نترقبه بشغف، وفي الثامنة والنصف تماما، نتسمّر كلٌ منا في «بُرشه»، ونمضي ساعة من المتعة الذهنية والبصرية.. ملحمة أدبية وفنية، جسّدها الروائي «أسامة أنور عكاشة» بعبقريته الفذة.. عبرت عن أهم حقبة في تاريخ مصر؛ مصر التي في خاطرنا، التي نحبها، مصر الزمن الجميل، والأيام الصعبة.. مصر صلاح السعدني، ونور الشريف وسعاد حسني.. مصر عبد الحليم حافظ، والشيخ إمام، وأمل دنقل، والأبنودي.. مصر محجوب عمر، وعبد المنعم رياض.. مصر نجيب محفوظ، وفرج فودة.

أحببنا كل أبطال المسلسل، وعشنا معهم الحكاية المصرية من أولها: الثورة، التأميم، النكسة، العبور، رحيل الزعيم، الانفتاح، أوهام السلام.. مشينا في حارات القاهرة وبورسعيد والإسكندرية، وعشنا مع شخوصها، وأحداثها، بخفة ظل المصري، ابن البلد، الجدع، بوجعه اليومي، بنكاته اللاذعة، وهمومه وأحزانه..  نذكر منهم: سليم البدري، والعمدة سليمان غانم، ونازك السلحدار، وناجي السماحي، علي البدري، وأمه أنيسة، التي جسدتها محسنة توفيق.

لم يكن اختيار المخرج إسماعيل عبد الحافظ  للفنانة محسنة توفيق عشوائيا لتجسيد هذا الدور المعقد والمركب، والذي لعبته بإتقان قلَّ نظيره.. قبل عام، حين ودعت الراحل ممدوح عبد العليم (الذي مثّل دور ابنها علي في المسلسل)، بكته بحرقة أم حقيقية.  

لم يكن «ليالي الحلمية» إبداعها الوحيد، ربما كان المحطة الأبرز في مشوارها الفني الطويل، والحافل.. ورغم أنها كانت مقلة في أعمالها الفنية، خاصة في السينما، إلا أنها كانت مميزة، وتركت بصمة راسخة وخاصة بها.. عملت مع المخرج الراحل يوسف شاهين، في مجموعة من أبرز أفلامه، منها: «إسكندرية ليه»، و»العصفور»، و»وداعاً بونابرت».. ومن أفلامها المميزة أيضاً: «البؤساء»، للمخرج الراحل عاطف سالم، و»ديل السمكة»، للمخرج سمير سيف، وفيلما «قلب الليل» و»الزمار»، للمخرج الراحل عاطف الطيب. كما قدمت عدة مسلسلات رائعة منها: «الشوارع الخلفية»، و»أم كلثوم»، و»اللص والكلاب»..

في فيلم «العصفور» (1974)، والذي صنفه النقاد ضمن أفضل 100 فيلم في ذاكرة السينما المصرية، جسدت الفنانة الراحلة دور «بهية»، كانت أغنية الفيلم «مصر يمّه، يا بهية» للشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام، والذي بفضله صارت بهية أيقونة وطنية ورمزاً لمصر.. وقد مثلت عبقرية المشهد الأخير من الفيلم صرخة «بهية»: «لأ، حنحارب.. لأ، حنحارب».. كانت الصرخة تعبيرا صادقا عن إرادة المصريين في مواصلة الكفاح، في لحظة فارقة من تاريخ مصر، حين قرر جمال عبد الناصر التنحي عن الحكم، وهو القرار الذي تراجع عنه تحت الضغط الشعبي. صرخة بهية في الفيلم، لم تكن مشهداً تمثيليا؛ بل كانت لحظة الحقيقة، كانت وصية «بهية» الخالدة للمصريين، ولنا جميعا: أكملوا الكفاح. 

وقفت الراحلة الكبيرة بثبات مع كفاح الشعب الفلسطيني.. في حرب بيروت 1982، جاءت إلى لبنان للتضامن مع قوات الثورة الفلسطينية، قابلت ياسر عرفات والمقاتلين هناك على خط المواجهة.. أتت برفقة الفنانة العظيمة ناديا لطفي، وكانت معهما الكاتبة الراحلة فتحية العسال وآخرون. 

وفي أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006، طُلب منها السفر مع وفد من الفنانين، تحت رئاسة جمال مبارك، بيد أنها رفضت، وقالت في تصريح لجريدة الأخبار اللبنانية: «مش ممكن.. مش هسافر مع شوية طبالين». وبسبب مواقفها السياسية الشجاعة استبعدت من المشاركات في الأعمال التلفزيونية. 

آخر ما قالته في مهرجان أسوان لسينما المرأة: «أنا مدينة للشعب المصري، قدمتُ في حياتي ما آمنت به، وما استفزني، وأعجبني من خلال انتمائي للطلبة والعمّال منذ صغري، وحين جاءت ثورة يناير 2011 شاركت فيها، لذلك أنا مدينة لشعب مصر بوقوفي هنا».

ولدت الفنانة محسنة توفيق في العام 1939، وتخرجت من كلية الزراعة العام 1968، كانت ناشطة يسارية، مع الطلبة والعمّال، وقد اعتقلتها المخابرات سنة ونصف السنة، وفي شباط 1967 حصلت على وسام العلوم والفنون من الرئيس جمال عبد الناصر، وفي العام 2013 حازت على جائزة الدولة التقديرية عن مجمل أعمالها الفنية. كان آخر أعمالها مسلسل «أهل الإسكندرية» 2014، ولكن المسلسل لم يُعرض.

محسنة توفيق إنسانة حساسة، وفنانة ذات صوت رخيم، كانت دائما تشدو بأغاني مصر الشعبية، وذات مرة استضافتها مؤسسة شومان في عمّان، ويومها غنت للشيخ إمام أمام جمهور كبير.. 

محسنة توفيق، ممثلة ماهرة ومثقفة، وهي إلى جانب فنها، مناضلة وطنية مصرية كبيرة، عروبية الانتماء، وناصرية الهوى، ناضلت من أجل الحرية والعدالة، والكرامة الإنسانية، هي البنت الوفية للشعب المصري العظيم.

وداعاً أيتها الجميلة..

سنظل نردد جملتك الأثيرة: حنحارب.

التعليقات