حروب مسبقة السقف

حروب مسبقة السقف
حروب مسبقة السقف

عبد المجيد سويلم

لم يكن ما يجري في قطاع غزة إلاّ في نطاق المتوقع، بل ويمكن القول في نطاق المنتظر.

نتنياهو بعد أن "نجح" في الانتخابات الإسرائيلية لم يعد بحاجة إلى التفاهمات السابقة؛ بعد أن أمّن لنفسه فترة الهدوء التي كانت ضرورية للانتخابات.

موجة التصعيد الأخيرة سبقتها إعلانات غير مباشرة من قبل اليمين المتطرف عن "شروط" جديدة للتهدئة الجديدة، وكان من جراء ذلك أن تم بصورة مباغتة تقليص أميال الصيد، وبدء الحديث عن "الجنود" المحتجزين لدى حركة "حماس".

المهم أن "حماس" و"الجهاد" وربما فصائل أخرى فهمت جيداً الابتزاز الإسرائيلي الجديد، وبدأت بمحاولة "التمرد" عليه، لكن الذي "شجعها" على محاولة التمرد هذه هو قراءة اللحظة السياسية. تقول هذه القراءة: إن نتنياهو لا يمكنه المغامرة بتصعيد قد يؤدي  - من بين ما يمكن أن يؤدي إليه - إلى إلغاء مهرجان الأغنية الأوروبية بعد كل هذا التطبيل والتزمير لهذا المهرجان، كما يمكن أن يعكّر "صفو" الاحتفالات بذكرى قيام إسرائيل، إضافةً إلى حالة الاستعصاء التي ما زالت قائمة في مباحثات نتنياهو مع كتل اليمين من كل أنواع اليمين لتشكيل الحكومة.

لهذا، فإن موجة التصعيد المستمرة كانت حصيلة طبيعية لهذا الواقع، ولهذه الهوّة التي باشرها نتنياهو وانتهت إلى "ضرورة" إعادة التفاوض ولكن تحت وابل من نار.

أما القضايا التي لم يعلن عنها نتنياهو في تفسير هذا التصعيد، ولم تعلن عنها الفصائل، أيضاً، فهي الموقف من "صفقة القرن" والموقع المفترض لقطاع غزة في هذه الصفقة.

نتنياهو يريد الوصول إلى تهدئة تعطي لحركة حماس ما تصبو إليه من التحكم النهائي و"المكرس والمرسّم" بالقطاع شريطة التعاون معه في القبول الضمني لانفصال القطاع عن الضفة، والعمل على قيام كيان "منفصل ومستقل" عن أي "مشروع آخر"، وبحيث يكون من الناحية "الواقعية" هو الكيان الرسمي للفلسطينيين، وهو المركز الرئيسي للحالة الفلسطينية.

أما حركة حماس فلا تستطيع القيام بهذا الدور مسبقاً قبل أن تحقق لنفسها القدرة على تسويق الأمر وكأنه إذعان إسرائيلي لمطالبها، بعد أن "فشلت" في إخضاع "المقاومة" للشروط الإسرائيلية يلاحظ بهذا الشأن أن كوشنير في الفترة الأخيرة يتحدث أقل حول مصير القطاع، ما يوحي أن هذا الأمر ما زال غامضاً في الرؤية الأميركية التفصيلية، لأن نتنياهو نفسه لم يفصح بالكامل عن أهدافه من استخدام حركة حماس من حيث الدرجة ومن حيث الزمن، أيضاً.

يؤيد هذا التصور ما ذكره "غانتس" في انتقاده لسياسة نتنياهو حيال القطاع، معتبراً أنه (أي نتنياهو) يريد تحميل الجيش عبء سياسته الغامضة، لأن كل ما يريده نتنياهو اليوم هو الحصول على ائتلاف يحميه من المحاكمة، والكلام كله هنا للباحث والكاتب المميز بالشؤون الإسرائيلية الأستاذ نظير مجلّي.

لكن مع ذلك، فإن هذا التصعيد يظلّ محكوماً بسقف عدم التحول إلى مواجهة شاملة أو حرب حقيقية قد تؤدي إلى تغيّر في قواعد اللعبة.

وليس لدى نتنياهو القدرة على الذهاب إلى هناك، وليس لدى الفصائل في القطاع القدرة على جرّ القطاع إلى حرب من هذا النوع يستحيل على الناس تحمّلها.

المساحة الفاصلة بين سقف دون سقف التفاهمات الأخيرة، وبين سقف قد يصل إلى الحرب الشاملة، هي مساحة كبيرة وواسعة، ما زالت "تسمح" لدرجات أخرى من التصعيد، بما في ذلك اتساع دائرة الاستهداف داخل إسرائيل من قبل الصواريخ "الفلسطينية"، واستخدام تدمير أكبر وعمليات نوعية كبيرة بما فيها الاغتيالات للقيادات السياسية والعسكرية من قبل إسرائيل.

أما السقف الزمني لهذا التصعيد فهو على الأرجح أربعة أو خمسة أيام أخرى على أبعد الحدود.

وإلى أن يتم التوصل إلى تهدئة جديدة وتفاهمات جديدة، فإن الشيء الوحيد المؤكد هو تدفيع أهل غزة ثمن هذه المناورة السياسية المكشوفة.

السؤال الذي لم نسمع عنه شيئاً من حركة حماس والجهاد وبعض الفصائل هو: أليس هناك طريق أسهل وأصوب لتخليص القطاع من كل هذه المعاناة وكل هذا البؤس؟ أليس قبول حركة حماس بإنهاء الانقسام، والاحتكام إلى النظام السياسي الفلسطيني، والدخول في شراكة وطنية فلسطينية، عبر القبول باتفاقية 2017، وإعطاء حكومة الدكتور إشتية صلاحياتها ومسؤولياتها في القطاع هو الطريق الأسلم لمواجهة "صفقة القرن"، وفك الحصار عن القطاع، وإعادة الزخم للعلاقات الوطنية لمواجهة كل الأخطار والتحديات؟

لو كنت في موقع إسداء النصيحة لحركة حماس، لأشرت عليهم بالقبول الفوري والمباشر بمعادلة "الجمل بما حمل"، لأن حركة حماس في هذه الحالة تكون قد خلّصت نفسها من مأزق القطاع، وتكون قد كسبت أو استعادت ثقة الكثيرين الذين فقدوا ثقتهم بها، وتكون قد ساهمت بصورة جوهرية في مواجهة "صفقة القرن"، وتكون قد ألقت بمسؤولية معالجة معاناة القطاع على الكل الوطني، إضافة إلى إعادة استنهاض الحالة الوطنية والإقليمية وربما الدولية، أيضاً.

لو أن المنطلق لحل المشكلات هو منطلق وطني، ولو أن ما تريده حماس هو الشراكة الوطنية لمواجهة الأخطار، لما كان لديها أي مشكلة في الواقع. لكن مع الأسف الشديد ما زالت حركة حماس وكذلك الجهاد وبعض الفصائل الأخرى على استعداد لكل شيء عدا اللجوء إلى الحل الوطني والاحتماء الجماعي بالشرعية الوطنية.

تردد حركة حماس في القبول بهذا الحل، وهو حل وطني مناسب لحركة حماس أولاً وقبل كل شيء، وحل مناسب للكثير من أزمات الساحة الفلسطينية، وهو المدخل المناسب لشراكة وطنية ولبناء إستراتيجية ثابتة ومستقرة، وهو حل مناسب لإفشال "صفة القرن"، وهو الحل الوحيد القادر على تخليص أهلنا في القطاع من هذه الويلات المتكررة.

تردد حماس أو رفضها كل هذه الفرص هو عنوان فشل كبير، وعنوان سياسات غير فلسطينية.

والتردد كما يقال هو مقبرة الفرص.

التعليقات