معايير عشائرية مختلفة!

معايير عشائرية مختلفة!
ريما كتانة نزال

«ع» الفتاة العشرينية اغتصبت من قبل وحش غرائزي..

مهلكم، لا بد قبل الخوض في موضوع اغتصاب «ع» من حلحول بعد اختطافها، من التذكير بمقتل الفتاة «س» من يطّا مع جنينها على يد أمها قبل ست سنوات، غسلاً للعار. اكتشفت الأم حَمْل ابنتها بعد اغتصابها. 

وجه التشابه بين الفتاتيْن: «س»، و»ع»، في كونهما من أصحاب الاحتياجات الخاصة. «ع» تشبه «س»: بينما كان جسدها ينمو مشكلاً أنوثة غامضة المعالم، بقيَ عقلها قاصراً عن اللحاق بجسدها. «ع» و»س» مثلنا تماماً. نتفاعل مع التقدم القيمي والإنساني. قمنا بتبني مصطلحات ومفاهيم حقوقية، كما نسقط أوهاماً حول انضمامنا إلى شرائع ومسلّات حقوقية ومُثُل عُليا، من عِيار أن القانون العصري أطلق مصطلح صاحبات الإعاقة الذهنية والحركية لحماية إنسانيتهن وكرامتهن، رضي واقتنع بها الجميع، لكن المجتمع الذي يعاني من متلازمة التفكك، قيمياً وأخلاقياً، لم يتحرك لرفع سبابته مدافعاً عن المصطلح وصاحباته في وجه من يخرقها، كما أن أولي الأمر منا لم يتحركوا للإفراج عن القوانين الكفيلة بالردع المسبق واللاحق لمرتكبي الجرائم.

لقد عادت «س» مع أنفاسها المكتومة إلى مسرح الجريمة، للتضامن مع «ع»، عادت لتسابقنا في إصدار بيانات التنديد والاستنكار، ربما تُطيِّر برقية أو نداءً قوياً تستغيث بأولي الأمر لإصدار قانون العقوبات، أو تقرر الدعوة إلى تنظيم اعتصام حاشد لا تشارك به عادة سوى النساء، تطلق الهتافات والشعارات على مقربة من آذان وأسماع من يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن حياة وموت النساء، في الحيّز العام. 

«ع» لا تعرف عن أمرها شيئاً، ومن ضمن ما تجهله حكم القدر على تأبيدها طفلة مدى حياتها القصيرة، لا تميّز ولا تدرك، لا تتكلم ولا تعبِّر، لا تشكو ولا تتحرك. ولم تكن تعرف أن إعاقتها ستعرضها لنهش اللحم واستغلال الشواذ والمنحرفين، ولم تكن تعرف أنها ستكون يوماً خبراً صغيراً في الصحف، وأنها منذ أن خطفها أحد الأنذال ستكون غيرها إن بقيت على قيد الحياة. 

الجاني ارتكب فعلته الشائنة بجبن ونذالة، وحش آدمي تتبرأ منه الوحوش الكاسرة، لم يهتم لإعاقة ضحيته، بل ما كان يعنيه استغلال جسد الأنثى ليفرغ بها أمراضه النفسية وانحرافه. ربما اعتبروا أن غياب عقل ضحيته ميزة مشجعة لممارسة وحشيته على الكائن الضعيف. 

وفي خطوات أخرى أصبحت عبثية لأن لا حياة لمن تنادي، تنخرط المؤسسات في توثيق البيّنات والنداءات والمذكرات والمطالبات، تُصَنَّف بكل أناقة في الملفات والتقارير، ومن ثم يعود الجميع لممارسة أنشطتهم الروتينية تاركين الشر يتربص بضحية جديدة، ويغتصب روحاً أخرى. 

عودة إلى البداية التي لا تنتهي. كما تم توثيق إعاقة «س» الذهنية والحركية، سَيلحظ ملف «ع» إصابتها بمتلازمة «داون». وكما تحولت «س» منذ ست سنوات إلى خبر منسيّ، ستتحول «ع» إلى خبر آخر ينام في الأدراج. 

في أحد جوانب المشهد العام، سينخرط الجميع في معركة «فيسبوكية»؛ يمارسون دور الضحية والجلاد والقضاة، يُجرَّمون الجميع مع تخصيصهم النساء ببعض المسؤولية. بينما في الجانب الآخر من الصورة، تُعقد الصفقات العشائرية وتُفرش العطوات، تحت عنوان لملمة شظايا القضية وحبس الدم إلى أجل محدد.

الأسئلة مُشَرعة أمام الجهات صاحبة القرار: إلى متى يستمر المشرِّع في تجاهل الحالة المتفاقمة؟ إلى متى يطول سكوته عن القانون الذي يحمي النساء والرجال من العنف ويصنع ثقافة العقاب والمساءلة ولا يُحصِّن الجناة ويحميهم من العقاب؟ وإلى متى يستمر تفعيل القانون العشائري المعتمد على موازين القوى المحلية، في التغول على القانون وتحييده عن القيام بواجبه؟ وكيف يحتمل ضمير المسؤولين وطأة اغتصاب صاحبات الإعاقة اللواتي لا يدركن أو يميزن دون أن يتحرك للقيام بواجبه؟ وإلى متى تتم قراءة تعويذة الانقسام على رؤوسنا كذريعة لتعطيل صدور القانون أو ما ينوب عنه لحماية النساء من الانكشاف للقتلة؟ ألا يشكل سكوتهم تواطؤاً على المرأة وحماية للقتلة! 

وهل سينصف القضاء «ع» المصابة بمتلازمة «داون»، «ع» التي لم تعرف ما ينتظرها حتى لحظة اغتصابها أم أنها ستكون رقماً آخر يُضاف إلى حوادث اغتصاب صاحبات وأصحاب الإعاقة الخفي والمُتَستَّر عليه؟

سأختم بالتوقف والتأمل في صك العطوة المنعقد في «حلحول، القاضي بهدر دم المعتدي ومنعه وإخوته من دخول المدينة، ودفع مبلغ مائتي ألف دينار. ما ميّز الصك إشارته إلى إصابة الفتاة بمتلازمة «داون» كنقطة مقصود منها إبعاد شبهة تجاوب الفتاة مع المعتدي وتبرئتها من الشائنة. ما يدفعني للتذكير بقتل فتاة «س» بقرار عائلي، رغم معاناتها من إعاقة أشد من إعاقة «ع» وأكثر صعوبة، لكون الاعتداء الجنسي كان من داخل الأسرة.

لقد انتصرت أسرة «س» للذكر المعتدي وأوقعت العقاب الأشد بحق المعتدى عليها، بما يؤكد ازدواجية الحكم العشائري وتطبيقه معايير مختلفة في القضايا المتشابهة، بسبب تعامله مع موازين القوة الاجتماعية العاملة ضد النساء بشكل عام.

ليطرح السؤال نفسه: إلى متى نبقي على الحكم العشائري ومواجهته لحكم القانون؟

التعليقات