حركات التحرر والديموقراطية

حركات التحرر والديموقراطية
حركات التحرر والديموقراطية

بقلم : توفيق شومان

في الواقع أريد من خلال هذه الكلمة أن أعيد الطرق على أبواب الذاكرة ، ذاكرة الجدل والنقاش حول العلاقة بين الديموقراطية وحركات التحرر .

وهذا الجدل ، رافق مسيرة حركات التحرر في عموم العالم الثالث ومن ضمنه العالم العربي بطبيعة الحال .

في المفهوم العام أن حركات التحرر تنشد الحرية وتهدف إليها ، وإلى حدود غدت فيها حركات التحرر والحرية مترادفين ومتلازمين لا يمكن فصل واحدهما عن الآخر .

استراتيجياتها القريبة والبعيدة تتمحور حول النضال ضدالإستعمار والإحتلال بهدف تحقيق الإستقلال الوطني وصيانة حرية الشعوب والأوطان .

إذا : التحرر من الأجنبي أو تحرير الأوطان هي المهمة التي تأخذها حركات التحرر على عاتقها ، معتمدة الوسائل كافة بما فيها الطليعة العسكرية ، ومحاولة في الوقت نفسه تعبئة أوسع الشرائح والفئات والطبقات الشعبية والوطنية لمواجهة الإحتلال أو الإستعمار .

بمعنى آخر : الهدف رفع الهيمنة والظلم بأشكاله المختلفة : الإقتصادية والسياسية والإجتماعية .

مرة ثانية : الحرية هي الهدف البعيد لحركات التحرر .

لو حصرنا الحديث في العالم العربي سنواجه أسئلة بارزة وشائكة حول علاقة الديموقراطية بحركات التحرر أو علاقة حركات التحرر بالديموقراطية.

الإجابات التقليدية حول ذلك تراوحت بين ديموقراطية كغاية بعيدة يمكن تأجيلها و بين أولوية المواجهة التي لا يمكن تأجليها .

في هذا السياق سلكت وسارت حركات التحرر العربية ، وفق قاعدة تأجيل الديموقراطية إلى مرحلة ما بعد التحرر الوطني وفي صلب هذا السياق يمكن الإستشهاد بالثورة الجزائرية، فيما منظمة التحرير الفلسطينية أخذت بالتنوع إنما من دون أن تأخذ بالديموقواطية.

إذا ... اعتمدت حركات التحرر العربية مبدأ تأجيل الديموقراطية أو الديموقراطية المؤجلة وعدم البت بها ، بإنتظار الإستقلال الوطني وإزالة الإستعمار .

الجدل نفسه ثار وأثير مع مراحل ومحاولات بناء الدولة الوطنية العربية في مرحلة ما بعد الإستقلال ، وبالتحديد في مرحلة ما بعد تنامي المشاعر القومية والوطنية .

ولنا في ذلك أمثلة عدة : من بينها تجربة الرئيس جمال عبد الناصر حيث تزاحمت الأسئلة بعد إسقاط النظام الملكي على الشكل التالي :

ـ بناء الدولة الوطنية أولا أم اليدمقراطية أولا ؟وهنا يحضرني كتاب لخالد محمد خالد صادر في العام 1954 بعنوان : الديمقراطية أولا .

ـ الأمر ذاته ينطبق على المسار السياسي في العراق وسوريا ، حيث تسابق السؤالان : هل الديموقراطية أولا أو بناء الدولة الوطنية أولا؟ .

في اليمن الجنوبي طُرحت الإشكالية نفسها بين الجبهة القومية وجبهة تحرير اليمن الجنوبي قبل وإثر الإنسحاب البريطاني من جنوب اليمن في العام 1967(عبد القوي مكاوي ـ قحطان الشعبي) ، وكان اليمن الشمالي سبقه إلى ذلك بعد إسقاط الحكم الملكي في العام 1962.

حيال هذه الوقائع نغدو أمام استعادة تاريخية لسؤالين وحقبتين :

ـ السؤال الأول في الحقبة الأولى : الديموقراطية أولا أم المواجهة أولا ؟

ـ السؤال الثاني في حقبة دولة الإستقلال : الديموقراطية أولا أم بناء الدولة الوطنية أولا؟

ـ السؤال الثالث ، ذاتي ومعرفي ونقدي في الآن نفسه : وهو ناتج عن هذين السؤالين وهاتين الحقبتين : هل كان يمكن المواءمة بين الديموقراطية وحركات التحرر وبين الديموقراطية وبناء الدولة الوطنية؟

أترك هذا السؤال لخاتمة هذه المداخلة ، وأذهب إلى توسيع فضاء الحديث نحو نموذجين غير عربيين لحركات التحرر.

ـ الأول : النموذج الصيني

ـ الثاني : النموذج الهندي .

النموذج الصيني وحتى وفاة ماوتسي تونغ في العام 1976، اعتمد سياق الإيديولوجيا الحادة والواحدة في بناء الدولة والمجتمع ، وكما يعرف الجميع تم التخلي عن هذا النموذج بعد رحيل ماوتسي تونغ بسنوات ، وأضحت الصين رائدة في مجالات عدة وضمن ما يُعرف دولة بنظامين ، شمولي على المستوى السياسي وحر على المستوى الإقتصادي ، وظلت الصين بعيدة عن الحريات السياسية إلا أن القادة الصينيين استطاعوا أن يبنوا دولة قوية وحقيقية ، خصوصا في المرحلة التي تلت ماو تسي تونغ حين تخلصوا من إرث الثورة الثقافية وحتى من إرث الماوية كما يذهب كثيرون إلى قراءة الطريق التي سلكها دنغ شياو بنغ، صاحب نظرية : الصين أولى في نصف قرن .

ـ النموذج الهندي مع المهاتما غاندي قائد وزعيم حركة الإستقلال عن التاج الإنكليزي ، هذا نموذج أجاب مبكرا على سؤال الديموقراطية وحركة التحرر في مرحلة النضال ضد الإستعمار البريطاني ، وكذلك أجاب مبكرا في وقت لاحق على سؤال الديموقراطية وبناء الدولة الوطنية ، والواقع يقول إنه بعد سبعين سنة من استقلال الهند ، استطاع غاندي وخلفاؤه بناء دولة حقيقية ناهضة وديموقراطية مستقرة منذ العام 1947 ( اليوم بالذات يذهب 155 مليون هندي الى الإنتخابات العامة من أصل 900 مليون هندي يحق لهم الإنتخاب ).

ـ أيضا إلى جانب النموذج الهندي ، يمكن إضافة النموذج الجنوب ـ أفريقي مع نيلسون مانديلا، الذي خرج من السجن بعد ثلاثة عقود تقريبا ليقول بمسألتين : التسامح والديموقراطية.

مثل هذه الإجابات لم نعثر على مماثلات لها في عالمنا العربي ، إذ كان ثمة أجابة واحدة وآحادية ، قامت على نبذ الفكرة الديموقراطية بإعتبارها غربية المصدر والمنشأ، هكذا قال الأصدقاء القوميونوتجاوزوا بذلك حقيقة لا جدال فيها وهي أن الفكرة القومية بحد ذاتها هي أيضا غربية المصدر والمنشأ ، وكذلك نبذ الأصدقاء اليساريون فكرة الديموقراطية الغربية ، إلا أنهم تبنوا فكرة غربية بديلة وهي الفكرة الشيوعية الغربية المصدر والمنشأ هي الأخرى .

وربما السؤال هنا : لماذا كانت الإجابة العربية على مدى الستين عاما الماضية متمركزة حول فكرتين غربيتين هما القومية بنظامها الشمولي والشيوعية بنظامها الشمولي ، ولم تأخذ الإجابة اتجاها آخر وهي الديموقراطية الغربية ، مع أن المصدر واحد والمنشأ واحد والمرجع واحد؟.

في الختام أعود إلى السؤال الذاتي والمعرفي :

ـ هل نستطيع أن نفك الأحجية التي ما زالت عالقة بين ( لمن ) الأولوية : التحرر الوطني أم التحول الديمقراطي ؟

ـ هل نستطيع أن نفك اللغز القائم بين(لمن) الأولوية : التحرر القومي أم التحول الديموقراطي ؟

ـ هل نستطيع أن نعثر على الحلقة المفقودة والضائعة بين بناء الدولة الوطنية والديموقراطية؟

ـ هل يمكن الخروج من مفهوم تزاحم الأولويات تلك ، ليغدو الثلاثي القائم على حركات التحرر وبناء الدولة الوطنية والديمقراطية أولوية واحدة من ثلاثة أعمدة ؟.

هذه أسئلة ترافقنا منذ مائةعام ، ما زلنا حيارى حولها ، وما زلنا تائهين حيالها ، لكن ما يجري في منطقتنا من حرائق ولهب ، ومن نيران وشهب ، يعيد طرح الأسئلة من أولها ويعيدها إلى نصابها قبل قرن بالتمام والكمال ،ومن ضمن هذه الأسئلة :

هل كان شعار : لا صوت يعلو فوق صوت المعركة سليما كل السلامة وصائبا كل الصواب وصحيحا كل الصحيح بأطروحته العامة والآثار الناتجة و الناجمة عنه ؟

هل سقوط المشروع القومي بعد حرب العام 1967 ناتج فقط عن الهزيمة العسكرية أم أنه مرتبط بجانب من الجوانب بالإجابة الغائبة حول العلاقة بين الديموقراطية والدولة الوطنية؟

أخيرا : أختم وأقول : كلي قلق وكلكم قلق على الجزائر ، وأتساءل : إن بلدا عظيما مثل الجزائر وثورة عظيمة مثل الثورة الجزائرية : هل كان له أن يتحول إلى بلد مضطرب أو تتحول معه الدولة الجزائرية إلى دولة قلقة ، لو تم التزاوج في مرحلة ما بعد الإستقلال ومرحلة ما بعد التحرر من الإستعمار : بين بناء الدولة الوطنية والديموقراطية ؟؟!! .

هذا السؤال لا أدعي ولا أزعم الإجابة عنه ، إلا أنه يستحق أن يتحول إلى مادة للنقاش ، وإلى قاعدة لتبادل الأفكار ، لعلنا نمسك بعض أطراف الأجوبة أو مقدمات الأجوبة أومداخلها .

أكرر وأختم : لا أدعي ولا أزعم

إنما أحاول أن ألمس وأتلمس بعض أطراف الأجوبة على الأقل .

التعليقات