الجزائر واللحظة التاريخية الفارقة

الجزائر واللحظة التاريخية الفارقة
الجزائر واللحظة التاريخية الفارقة

د. عبير عبد الرحمن ثابت

أستاذ علوم سياسية ,وعلاقات دولية 

خرج الشعب الجزائرى قبل ستة أسابيع فى تظاهرات بالمئات لتتحول إلى مليونيات تتجدد كل جمعة، وبدأت بمطالبة الرئيس بوتفليقة بعدم الترشح لفترة رئاسية خامسة؛ وشيئا فشيئا ارتفع سقف المطالب برحيل بوتفليقة وصولا إلى رحيل النظام بكل رموزه الظاهرة والتى عرفها الشعب جيدا لأكثر من عقدين من الزمن ولم يجد توصيفا لها إلا بكلمة المافيا التى علت كل الشعارات فى التظاهرات الشعبية وصولا إلى آخر تصريح لقائد الأركان أحمد قايد صالح الذى كرر نفس الكلمة فى وصف مؤامرة مؤسسة الرئاسة الحاكمة للالتفاف على مطالب الشعب قبل ساعات من إعلان الرئيس بوتفليقة لاستقالته الأسبوع الماضي.

ما يحدث فى الجزائر اليوم وبرغم تأخره هو لحظة تاريخية فارقة فى مستقبل الجزائر والمنطقة ساقها القدر لهذا الشعب البطل ليستكمل مشوار الحرية والتحرر الذى بدأه الآباء فى ثورة نوفمبر 1954باعادة بناء الجمهورية الجزائرية الثانية جمهورية المواطنة والحرية والعدالة  والديمقراطية والمسائلة والشفافية؛ ولكن وفى خضم الأحداث المتلاحقة والتى لا زال الشعب الجزائرى المحرك الأساسي لها علينا أن ندرك أنه ثمة محرك ولاعب رئيسي آخر وهو المؤسسة العسكرية ممثلة بالجيش الجزائرى؛ ولولا غض الطرف من المؤسسة العسكرية ودعمها لتلك التظاهرات منذ الأسبوع الأول لما كسر جدار الخوف الذى أحاط بالجزائر لقرابة ربع قرن من الزمن خيمت خلاله على الجزائر أشباح العشرية السوداء بأطيافها المعروفة والخفية وكانت الفزاعة الأقوى فى يد تلك المافيا لاستمرار سلطتها.

وهذا التحول الاستراتيجي فى المؤسسة العسكرية ما كان ليحدث لولا السياسة الممنهجة التى اتبعها الرئيس بوتفليقة باكرا فى قص أجنحة الصقور فى المؤسسة العسكرية والأمنية واستعادة سيطرة الرئاسة على الدولة العميقة التى كان يتحكم فيها مجموعة من الجنرالات الصقور مثل محمد العمارى وخالد نزار؛ حيث أصبحت مؤسسة الرئاسة مؤسسة صورية يشكلون ملامحها كيفما يشاؤون، ولكن بوتفليقة أدار اللعبة بدهائه المعهود وكانت آخر فصولها حملة الإقالات في المؤسسة العسكرية والأمنية التى أجرتها المؤسسة الرئاسية فى العام 2016؛ والتى أطاحت بآخر جنرالات الرعب محمد مدين والجنرال توفيق من رئاسة  المخابرات؛ ولتتفرد مؤسسة الرئاسة بكامل السلطة؛ ولكن من الواضح أن السحر قد انقلب على الساحر، فبعد أن ضاقت مؤسسة الجيش ذرعا بممارسات الفساد السلطوى لمؤسسة الرئاسة؛ والتى أصبحت بعد العام 2013 تحكم بالوكالة باسم رئيس لم يعد قادرا على أداء مهام منصبه بعد إصابته بجلطة دماغية غيبته لقرابة العام خارج الجزائر للعلاج والنقاهة وعاد إلى البلاد بعدها غير قادر على أداء حاجاته البيولوجية بمفرده؛ ولتتحول المؤسسة الرئاسية إلى جزء من تحالف سياسي واقتصادى لحفنة من الفاسدين سياسيا واقتصاديا أصبحوا الآمر والناهي والحاكم الفعلى للبلاد فى خضم فراغ سياسي خلفه غياب واقعي لرئيس عاجز صحيا.

وسواء أطاح الشعب بالمافيا بعون من الجيش أو أطاح الجيش بها بعون من الشعب؛ فإن المرحلة القادمة هى المرحلة الحاسمة فى المشهد الجزائرى؛ ومن الواضح أن حالة التوافق بين الشعب والجيش بقيادة الفريق أحمد قايد صالح ستكون بمثابة اختبار حقيقي للمؤسسة العسكرية  والأمنية وجنرالاتها فى قدرتهم على مقاومة بريق السلطة بعد أن عادت مجددا لهم، ولكن هذه المرة بقوة الشعب، فهل يكون بمقدورهم تركها عبر السماح بإعادة تأسيس نظام سياسي ديمقراطى حقيقي جديد يمثل قطيعة مع الماضي ويكون جوهره المواطن الجزائرى الحر وتحدد فيه صلاحيات المؤسسة العسكرية والأمنية وتخضع فيه لسلطة مدنية منتخبة من الشعب؛ أم أنه سيعاد اجترار التجارب التاريخية الفاشلة بإعادة تشكيل نظام مشابه فى معالمه للماضى بشخوص مختلفين حفاظا على مصالح شخصية ومنعا لفتح ملفات خطيرة مسكوت عليها لأكثر من ربع قرن من الزمن.

إن الضمانة الوحيدة لانتصار الثورة الجزائرية الثانية التى بدأت قبل ست أسابيع وتحقيقها لأهدافها المشروعة والمحقة فى انبعاث الجمهورية الجزائرية الثانية؛ دولة المواطنة والعدالة والحرية يكمن فى قدرة الشعب الجزائرى العظيم على مواصلته التظاهر والبقاء موحدا خلف خياراته التى خرج من أجلها حتى تحقيقها كاملة؛ ولتكن آخر جمعة تظاهر هى الجمعة التى تلى الإعلان عن نتائج انتخابات السلطة التشريعية والتنفيذية للدولة الجزائرية.

وبذلك سيمثل انتصار الشعب الجزائرى وتحقيقه لأهدافه نقطة فارقة ليس فى مستقبل الجزائر فقط بل فى مستقبل المنطقة بأسرها، وسيثبت التاريخ أن شعب المليون شهيد الذى أعطى نموذج انساني فريد فى التضحية من أجل الحرية وانتصر لهو أكثر شعوب الأرض  قدرة وتأهيل على صناعة نموذج حضارى لدولة الحرية والعدالة والمواطنة.


التعليقات