قصة مخطوطات قمران

قصة مخطوطات قمران
عبد الغني سلامة

كان أول فعلٍ قامت به إسرائيل إبان حرب حزيران 1967، استيلاؤها على مخطوطات البحر الميت؛ فأول مبنى اهتمت بالسيطرة عليه هو متحف الآثار الفلسطيني "روكفلر"، الذي كان يضم مجموعة من تلك المخطوطات، وفي اليوم التالي (7 حزيران)، اقتحمت دورية إسرائيلية منزل تاجر من بيت لحم، ودخلت غرفة نومه، وأخذت المخطوطة التي كان يحتفظ بها في علبة أحذية.

قال عنها عالم الآثار الأميركي "أولبرايت" إنها أهم اكتشاف تاريخي في القرن العشرين.. كما اهتم بها علماء اللاهوت المسيحيون بشكل كبير، وقد احتجوا على إسرائيل لإخفائها تلك المخطوطات، ليس فقط من باب التشوق العلمي؛ ولكن لظنهم أنها تحتوي على ما يدعم العقيدة المسيحية، أي ما ينص على ألوهية يسوع الناصري، فضغطوا على إسرائيل للإفراج عنها.. كما روّج علماء مسلمون أن تلك الوثائق تؤكد أن اليهودية والمسيحية الحاليتين، مجرد هرطقات، وتحريف لما كان موجوداً زمن المسيح. 

وقد ظلت تلك المخطوطات محاطة بالسرية والكتمان، حتى أفرج عنها في العام 2001، وهنالك مئات المقالات والدراسات والأفلام الوثائقية التي تحدثت عنها، وأعتقد أن أفضل من تناول الموضوع بمنهج أكاديمي صارم، وقدّمه بوضوح هو الدكتور عمر الغول. 

تبدأ قصة المخطوطات قبل نحو ألفي سنة، في منطقة قمران على الساحل الغربي للبحر الميت، حين خبّأ رهبانٌ كومة أوراق في جرار فخارية في أحد عشر كهفا.. ولحسن الحظ، بسبب وعورة المنطقة وانعزالها لم يعثر أحد عليها كل هذي السنين.. وفي العام 1947، يعثر راعي تعمري في أحد الكهوف على بعض تلك المخطوطات، فيبيعها بثمن بخس لأحد تجار التحف (كل سنتمتر بدينار)، الذي يقوم في العام التالي ببيع جزء منها، فيما يهرّب مطران السريان أربع مخطوطات إلى أميركا، ليشتريها أستاذ في الجامعة العبرية بربع مليون دولار، وهكذا تصبح سبع مخطوطات (من أصل 11) في قبضة الجامعة العبرية، التي ستبني لها متحفا خاصا (معبد الكتاب).

تحتج الأردن عند الخارجية الأميركية، وتطالب بالمخطوطات باعتبارها ملكاً لها، ولأنها هُـرِّبت من الأردن أثناء فترة حكمها للضفة الغربية.

بعد ذلك، تستمر الأردن وإسرائيل (وعشرات المنقبين) بالبحث والتنقيب في تلك المنطقة من (1949 - 1956)، فليكتشفوا مئات الكهوف، ولكن دون العثور على شيء جديد. 

بقي عند التاجر التلحمي "المخطوطة الثامنة"، وهي الأهم، طولها 11 مترا، سليمة تماما، وقد خبأها فوق خزانته في منزله ببيت لحم. (وقد استولى عليها الإسرائيليون كما ذكرنا). 

شكلت الأردن فريقا دوليا لدراسة ونشر المخطوطات، على نفقة المتحف الفلسطيني، وكان تقدير المتحف أن الموضوع سيحتاج سنتين.. ولكن بعد اكتشاف الكهف الرابع تأخر النشر، حيث ضم الكهف حوالى 15 ألف جذاذة، ومشكلتها أنها لم تكن محفوظة في جرار، وهذه تحتاج وقتا أطول بكثير، في تلك الفترة يكون المتحف قد أنفق كل ما لديه، حتى أفلس، وفي العام 1966 تدعم الحكومة الأردنية المتحف بمبلغ 15 ألف دينار.. بيد أن نكسة حزيران ستغير كل شيء؛ حيث تستولي إسرائيل على المتحف، لكن مدير المتحف حينها "عاصم برغوثي" يمنع الجنود من لمس المخطوطات. 

أخذت إسرائيل تفاوض الفريق الدولي للسماح لها بالمشاركة في دراسة المخطوطات حتى العام 1970، حيث توفي رئيس الفريق الذي ظل رافضا مشاركة أي باحث إسرائيلي، ولكن في الثمانينيات يسمح الفريق لباحثين يهود (غير إسرائيليين) بالمشاركة في دراسة المخطوطات. ولكن في المقابل رفضت إسرائيل السماح لأي باحث (غير الفريق الدولي) بمشاهدة حتى جذاذة واحدة من المخطوطات، حتى العام 1990. ففي تلك السنة تدبر إسرائيل مكيدة لرئيس الفريق، وتعزله، وتعين إسرائيليا بدلا منه، وتخصص فريقا من 150 باحثا، جلهم من الإسرائيليين مع موازنة ضخمة. 

بعد خمسين سنة من الدراسة والتحليل، تسمح إسرائيل بنشر المخطوطات (2001)، وتستمر بالنشر حتى العام 2009، حيث لم يتبق أي مخطوطة دون نشر، وقد تم جمعها في 41 مجلدا ضخما (موجود نسخة منها في مكتبة الفريق الأردني لمخطوطات البحر الميت، جامعة اليرموك).

في العام 2010 تنقل إسرائيل المخطوطات من متحف الآثار الفلسطيني، إلى متحف معبد الكتاب في القدس الغربية، وهو عمل مخالف للقانون الدولي. 

وهكذا تكون المخطوطات الثمانية بقبضة الاحتلال الإسرائيلي. وبقي جزء من المخطوطات في متحف أردني بجبل القلعة في عمّان.

ما هي تلك المخطوطات؟ وما مدى أهميتها؟

تتكون مخطوطات قمران من نحو 1000 مخطوطة، تضم 32 ألف جذاذة، أكثرها على الرق، وبعضها على البردي، ونص وحيد على النحاس، يعود تاريخها إلى الفترة ما بين القرن الثالث ق.م، وحتى 70 ميلادي. 

أهميتها أنها أقدم نص تاريخي، وجد بصيغته الأصلية، في فترة من أهم فترات تكون الديانات الإبراهيمية الثلاث. وأهميتها من حيث الشكل: اللغة التي كتبت بها؛ حوالى 80% باللغة العبرية، 20% بالآرامية، واليونانية.. من حيث المضمون (25% من المخطوطات هي العهد القديم) والباقي مواضيع متنوعة، بحيث أنه لا يمكن أن تصدر عن جماعة واحدة، بل هي عمل ثقافي متعدد، ممتد على مئات السنين، لا تجمعه وحدة فكرية متناسقة، وربع المخطوطات يتحدث عن جماعة دينية تطهرية، تؤمن بفكرة الخلاص والمسيح المنتظر.

ولفهم أهميتها، علينا العودة بالزمن إلى العام 100 ميلادي، حين عُقد مؤتمر "انجامينا"، جنوب فلسطين، حينها تم الاتفاق على اعتبار العهد القديم نصا مقدسا ثابتا رفع عنه القلم، ولم يسمح لأحد بعد ذلك بإضافة أو حذف أو تعديل حرف واحد من العهد القديم.. أي أن فترة كتابة المخطوطات هي الفترة التي كان يسمح للكهنة بتعديل بعض كلمات التوراة أو بالشرح والإضافة.. وحيث إنه لا توجد أي مخطوطة أصلية من العهد القديم، قبل سنة 1100 ميلادي، وبالتالي فإن مخطوطات قمران أول نص أصلي للعهد القديم. وهنا تكمن أهميتها، حيث تمت مقارنتها مع التوراة الحالية، فظهر أن مجموع الاختلافات ما بين التوراة (التي بين أيدينا اليوم) وبين المخطوطات بلغ 5120 اختلافا (ما بين نقطة، حرف، كلمة، جملة..) وهذه الفروقات تعد طفيفة، لا تتجاوز الـ 10%، وبالتالي نسبة التطابق تصل إلى 90%، أي أن العهد القديم استقر في بنائه بحدود القرن الثالث قبل الميلاد. 

من محاضرة عن "مخطوطات البحر الميت"، قدمها د. عمر الغول، بدعوة من الجمعية الفلسفية الأردنية، وبثتها قناة الفينيق.

في مقالة قادمة، سأتناول فكرة الخلاص والمسيح المنتظر، التي تهيمن على ربع تلك المخطوطات، وهو موضوع بالغ الأهمية والتأثير في تشكل الديانات.

التعليقات