الرواية الفلسطينية: من السلط إلى القدس

الرواية الفلسطينية: من السلط إلى القدس
فيحاء عبد الهادي

يوم 15 آذار 2019؛ رحل بسلام عاشق القدس، الأستاذ الدكتور "محمود أبو طالب"؛ أستاذ التاريخ القديم والآثار في الجامعة الأردنية، الذي تتلمذ على يديه العشرات من تلاميذ العلم، على امتداد الوطن العربي.

خسرت الأردن وفلسطين، وخسر العالم العربي عالِماً ومؤرِّخاً، وأستاذاً جامعياً، ومثقفاً استثنائياً، نذر نفسه للبحث العلمي، مذ كان طالباً. 

تخصص بالتاريخ القديم والآثار، وأنجز عدداً من الكتب: "آثار الأردن وفلسطين في العصور القديمة"، الذي صدر العام 1978، وكتاب "تاريخ مدينة السلط عبر العصور"، نشر مع د. محمد خريسات، ود. مصطفى الحَياري، العام 2000، وكتاب: "من السلط إلى القدس: أبحاث في تاريخ الأردن وفلسطين"، الذي نشر العام 2006.  

تضمن الكتاب إحدى عشرة مقالة، منها ثمانٍ كتبت باللغة الإنجليزية، ترجمها للعربية د. عمر الغول، وقام بالتحرير كل من د. "عمر الغول" و"عفاف زيادة".

*****

سوف أركز على الحديث على بعض ما ورد في كتاب د. أبو طالب: "من السلط إلى القدس"؛ لأنه قدّم فيه مراجعة نقدية للرواية التوراتية؛ ما يساهم في تفكيك الرواية الصهيونية، حيث "تشكل الرواية التوراتية أساساً عقائديا لإنشاء دولة إسرائيل في منتصف القرن العشرين". 

جاء في مقالته: "القدس واليبوسّيون وداوود"، أن شرّاح العهد القديم يرون أن احتلال يبوس، - التي سماها داوود أورشليم -، حوالى العام 965 ق.م تدل على أن أورشليم كانت مسوّرة، وأنه دخلها بخدعة جريئة، دون أن يلحق الضرر بسورها. وبذلك راح الآثاريون ينقبون عما سُمّي السور اليبوسي الداوودي، غير أن فحصاً دقيقاً للنصوص والشواهد الأثرية يفضي إلى أن أورشليم في عهد اليبوسيين و"داوود" كانت قرية صغيرة غير مسوّرة.

في نص لوحة الأمم، يُدرَج اليبوسيّون والأموريّون ضمن إحدى عشرة أسرة من كنعان. 

ويبدو أن من حَكَم يبوس من اليبوسيين في ذلك الوقت مجلس من الأرستقراطيين. ذكر العهد القديم أن داوود استولى عليها مع حوالى الأربعين رجلاً، جمعهم أيام كان خارجاً عن القانون، يجوب التلال الجنوبية لفلسطين فراراً من الملك شاؤول، الذي حكم في الفترة بين 1020 و1004 قبل الميلاد. 

وبعد موت شاؤول، قوي شأن "داوود"، ووحّد مملكتي يهودا وإسرائيل المنفصلتين، وجمع إليهما بعدها أورشليم، وجعلها عاصمة له. لكن بعد موت الملك "سليمان"؛ انسحبت القبائل الشمالية من حلفها مع "داوود"، وصار الملوك بعد "داوود" و"سليمان" ملوكاً على مملكة يهودا الصغيرة، وظل لأورشليم منزلتها الخاصة، حتى تم احتلالها على يد البابليين عام 586 قبل الميلاد، الذين قاموا بسبي سكانها. 

أما يبوس فقد تركزت في التلة الجنوبية الشرقية. اعتقد المنقبّون أن "داوود" استخدم ممر وارن الرأسي لدخولها واحتلالها، دون هدم أسوارها.

ويخلص د. أبو طالب إلى القول إنه ليس ثمة دليل أثري ينتصر للفكرة القائلة إن أورشليم كانت محاطة بسور أيام داوود واليبوسيين. وأن تحصينات المدينة تمت في عهد الملك سليمان.

*****

في مقالته بعنوان: "تاريخ إسرائيل التوراتية والمستشرقون"، وبالتوافق مع عدد من علماء الآثار؛ يشتبك الباحث، مع الرواية التوراتية، التي تقول إن الإسرائيليين هاجروا من مصر إلى الأردن وفلسطين، العام 1250 قبل الميلاد، وأنهم تحالفوا مع الأدوميين (بني عيسو)، والمؤابيين، والعمونيين، وأنهم احتلوا أرض كنعان، عبر حملة دموية؛ بعد أن هزموا بابين الكنعاني، ملك حاصور، في شمال فلسطين، بمساعدة الإله يهوَه، الذي تحالف معهم، واجترح المعجزات، فكان احتلال أرض كنعان: "عملية سريعة، دموية، شاملة، شاركت فيها قبائل بني إسرائيل الاثنتا عشرة مجتمعة". 

اختبر علم الآثار صحة هذه المعلومات، على مدى 100 عام؛ "ولم يجدوا أي أثر لاستيطان في العصر البرونزي المتأخر، بالإضافة إلى أن الناس لم تستوطن أياً من هذه المواقع استيطاناً دائماً أثناء العصر الحديدي الأول (1200/1150 - 900 قبل الميلاد)، رغم محاولتهم الدؤوبة لإيجاد آثار تتوافق مع الرواية التوراتية".

يسرد "سفر يشوع" أسماء إحدى وثلاثين مدينة احتلها الإسرائيليون في فلسطين. "ويراد بذلك إحدى وثلاثين مدينة محصّنة ذوات حجم يُعتدّ به". 

تبيّن نتيجة الآثار والتنقيب أن المواقع المذكورة لم تكن مسكونة في الفترة الزمنية التي وردت في التوراة. وعلى هذا فالمسألة لا تحتمل سوى أمرين: إما أن الإسرائيليين مرّوا من هذه المنطقة في القرن السابع قبل الميلاد، وإما أنهم لم يمرّوا منها قط. 

يؤكّد د. أبو طالب: "الاحتمالان يؤثران سلباً في قصة الخروج وفي قصة احتلال أرض كنعان كلتيهما". 

"انهمر علماء الآثار الإسرائيليون، على الضفة الغربية، بعد احتلالها العام 1967، بقصد زيادة المعرفة بموضوع الاحتلال والاستيطان، وخرج بعض الباحثين الإسرائيليين، مثل "إسرائيل فنكلشتاين"، بنظرية الاستيطان السلمي، التي تخالف الرواية التوراتية. وذكر "فنكلشتاين" أن الموجة الثالثة من الاستيطان "التي بلغت ذروتها حوالى العام 1000 قبل الميلاد، تتمثل في نحو 250 قرية، أنشئت في العصر الحديدي الأول، سكنها ما بين 100 - 200 ساكن، كانوا مزارعين ورعاة، ولم يعرف شيء عن ديانتهم، ولم يجد علماء الآثار أي مقامات دينية أو أي طقوس، ومع ذلك استنتج الباحث أن السكان كانوا إسرائيليين، معتمداً على أن إحدى الجماعات التي سكنت القرى والمخيمات، تميزت عن غيرها بأنها لا تأكل لحم الخنزير، "أما الطريقة التي سكنوا فيها تلك المناطق فكانت عكس الرواية التوراتية. أكثر السكان الذين نسميهم الإسرائيليين الأوائل كانوا سكاناً محليين. كانوا كنعانيين".  

*****

أهدى د. "محمود أبو طالب" كتابه القيِّم: من السلط إلى القدس، إلى زوجته: "فادية عبد الهادي"، وكتب جملة واحدة دالّة: "إلى فادية..التي تعرف لماذا". 

كان للغالية فادية مطلب واحد حين ارتبطت برفيق العمر: أن يكتب كتاباً عن القدس. وكان هذا الكتاب الثمين، الذي يساهم في دحض الرواية الصهيونية، وكتابة تاريخ فلسطين، في مواجهة المؤامرات المتواصلة على فلسطين بشكل عام، وعلى القدس بشكل خاص.

العزيز محمود أبو طالب؛ الأخ والأستاذ والإنسان،

من خلال مسيرتك الإنسانية والمهنية؛ قدَّمتَ الكثير لعائلتك الصغيرة والكبيرة. سوف يفتقدك أحباؤك، وزملاؤك، وأصدقاؤك، وسوف تفتقدك الأردن وفلسطين، وطلاب العلم والمعرفة على امتداد الوطن العربي. 

[email protected]

التعليقات