وجع "وجع المنسيين"

وجع "وجع المنسيين"
مهند عبد الحميد

حكايات «وجع المنسيين» هي وثيقة صادمة وتراجيديا مثيرة، قدمها ابو علاء منصور على لسان 150 فدائيا وفدائية، التقى بهم وحاورهم بالسؤال، وبلغة العيون التي كانت تفيض بالدمع، وعلى وقع دقات قلوب من انكسرت أحلامهم وأمانيهم. أبو علاء كان راويا ومدونا للحكايات، فهو واحد من الفدائيين الأوائل وقد توحد معهم في الألم والمعاناة، عارضاً بذلك المحنة إلى من يهمه الأمر ومحولاً إياها الى قضية رأي عام مع نشر الكتاب وتداوله. استحوذت الحكايات على كل اهتمامي كقارئ، وسيطرت على تفكيري ومشاعري، حيث اختلط الألم بالحزن، وتشاؤم العقل بتفاؤل الإرادة في التعامل مع هذه القضية الجوهرية. وضع ابو علاء منصور الإصبع على الجرح ليعرفنا على أهم سبب من أسباب انكسارنا وتفككنا كثورة وتنظيمات ومنظومة قيم التحرر. شذرات من معاناتهم ومعاناة معظم الرعيل الأول من الفدائيين والفدائيات، تكشف حقيقة إهدار قيمتهم الرمزية الرفيعة، بأسلوب الاستخدام التسليعي وكأنهم سلع تنتهي قيمتها بعد الاستهلاك، ثم يتجدد استخدام رعيل تلو آخر بنفس الطريقة. كأن التضحية عبء يتحمله أشخاص وعائلات مقدمة أقصى ما عندها الى حد التفاني. مقابل رفاه ووفرة العيش المخصص لآخرين من متسلقي الإنجاز الوطني الذي صنعه الفدائيون الأوائل. معادلة قطبها الأول عطاء بلا حدود مغلف بالصمت، وقطبها الثاني أخذ بحدود وبلا حدود، يكفي للقطب الثاني التبجح بالنضال وخلط الأدوار وسرقة الإنجاز. وتكمن المصيبة في تكريس هذا التقسيم الظالم للأدوار وتثبيته بمرور الزمن. كان تقاسم الأدوار المأساوي أثناء الثورة الأولى – 36 وما بعدها - بين أفندية وفلاحين، دفع ثمنه الفلاحون وحدهم، ثم أصبح التقاسم في الثورة المعاصرة بين أفندية جدد وأبناء مخيمات وأبناء فلاحين جدد، تقسيم يأتي الآن بصورة مهزلة لأن التاريخ لا يعيد نفسه الا على شكل مهزلة.

 لم تكن دولة الاحتلال سبباً وحيداً في صناعة الضحايا والمحن التي عاشها الفدائيون الأوائل والجدد كما نردد في خطابنا السياسي والإعلامي والثقافي، هؤلاء ضحايا الاحتلال، والسياسات الخاطئة والظلم الداخلي أيضا. لا يمكن فصل الدورين عن بعضهما البعض. وكما ينبغي أن تحاسب سلطات الاحتلال ينبغي محاسبة كل المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن الضحايا والمعاناة والمحن والإخفاق.

أسئلة كبيرة وعديدة طرحتها الشهادات، كالفكر السياسي، والسياسات والتخطيط، قوانين الحرب مع استعمار إقصائي، العقد الوطني الاجتماعي، الأخطاء الكبيرة والصغيرة، الارتجال والعشوائية، الهزائم، المنجزات والبطولات، والفساد بكل أنواعه، والاهم سؤال وقف المهزلة وعدم إضافة معاناة جديدة. ويمكن التوقف هنا عند ابرز الأخطاء.

* افتقد الأسرى مرجعية وأنظمة وقوانين ومبادئ يتم الرجوع اليها كناظم في التعامل مع مختلف القضايا. وقد أدى غياب تلك المرجعية الى الوقوع في أخطاء كبيرة من نوع التحقيق مع عدد كبير- على سبيل المثال 80 مطلوباً للتحقيق في سجن النقب، و43 حقق معهم في سجن بئر السبع وأعداد شبيهة في سجون أخرى- بشبهة التعاون مع سلطات السجون. الشهادات تَنْقُد تجربة التحقيقات المريرة التي «تسببت في تحطيم مناضلين»، باستخدام أساليب تعذيب وحشية لمجرد وجود شبهة غير مسنودة بدليل، وأحياناً لأسباب تافهة. هذه الظاهرة التي ارتبطت بظاهرة تصفية مئات من المشتبه بعمالتهم للاحتلال خارج السجون أثناء الانتفاضة الأولى، بمحاكمات تفتقد للأصول والنزاهة وفي أغلبها كانت صبيانية، وثبت أن أكثرية الضحايا كانوا بين أبرياء وبين متهمين بتهم لا تستحق بتاتاً الموت. كم كان حجم الخسارة جراء هذه الأخطاء؟ ولماذا لم تُنْقَدُ ويُعاد الاعتبار للضحايا الأبرياء؟  

 *عدم الالتزام الإسرائيلي بالقانون الدولي في كل ما يتصل بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني أدى الى التعامل مع الأسرى المقاومين بأشد انواع الظلم والاضطهاد، فقد رفضت حكومة رابين الإفراج عن كل الفدائيين الذين قتلوا جنوداً ومدنيين إسرائيليين على حد سواء عبر اتفاق أوسلو، مع ان حكومات سابقة وافقت على تبادل مقاتلين فلسطينيين بجنود إسرائيليين. كانت موافقة المفاوض الفلسطيني على استبقاء 200 فدائي بينهم 5 فدائيات في السجون غير مبررة ولا مفهومة وخاطئة وجلبت نتائج معنوية ورمزية خطيرة. وسبق هذا الخطأ أخطاء أقل فداحة في صفقة تبادل عام 83، ومبادلة جندي بأسير واحد هو محمود حجازي، ومبادلة جاسوسة بأسيرين فقط، ومبادلة جثة جندي إسرائيلي بعودة مبعد. مجمل تفاوض المنظمة وحركة فتح بشأن الأسرى لازمه الإخفاق مقابل نجاحات الجبهة الشعبية القيادة العامة وحركة حماس في ترجيح كفة الشروط الفلسطينية.  

* التعامل مع قضايا الخلاف والانشقاق والانقسام داخل المعتقلات سجل فشلاً واخفاقاً باستثناء صدور وثيقة الوفاق والاتفاق، والحد من التصادم بين «فتح» والمنشقين عنها، وفيما بين «فتح» واليسار وحماس. الفشل له صلة بالإخفاق في الخارج، حيث لم تتمكن النخبة السياسية والثقافية من تكريس الحق في الاختلاف الوثيق الصلة بالتعدد السياسي والثقافي والديني. كان الحوار اقل شأناً من الاصطفاف المبني على التعصب. مسألة لها صلة بتوقف الفكر السياسي عن التطور في الخارج والمراوحة، وإعادة تكرار خطاب ينتمي الى القديم. 

* قد يستوعب المواطن التحولات البيروقراطية التي طرأت على المؤسسة السياسية وقيادتها وكادرها، غير ان التوقف عن تطوير المؤسسات المتخصصة بالأسرى والمحررين والجرحى وأُسر الشهداء، غير مبرر ولا مسموح به، لأنه يمس الإنساني والأخلاقي والمعنوي الذي لا تعالج فيه الأخطاء ببساطة وسهولة. ويلاحظ ان مستوى أداء المؤسسات بمختلف فروعها لا يتناسب أبداً مع حاجة الضحايا. يفترض ان تدار المؤسسة بعقل ديناميكي منفتح على المجتمع وتحديداً على المجتمع المدني وعلى الرأسماليين ومؤسساتهم ووضعها أمام استحقاق دعم الأسرى واسرهم واسر الشهداء والجرحى، بما في ذلك بناء المشاريع والتعاونيات وغير ذلك. 

 أشعل أبو علاء ناراً وهو يطلق حكايات أبطاله الرائعين، والتي طالت السنتها كل شيء تقريباً. تلبسني إحساس بأنني شريك في إنتاج البؤس، وبعد معرفة المونولوجات الداخلية للمنسيين، لم أعد راضياً عن مواقفي بعد ان كنت راضياً قبل قراءة «وجع المنسيين»، أنا أتهم نفسي لأنني لم أفعل شيئاً من موقعي كصحافي غير التغني بالبطولة والفداء. وكنت جزءاً من نسيان وتناسي المسؤولية الفلسطينية ودورها في صناعة المحنة.

 اقترح ان تقوم اللجنة التنفيذية للمنظمة واللجنة المركزية لحركة فتح والمكاتب السياسية للتنظيمات، أولاً: قراءة كتاب وجع المنسيين بتمعن، ثانياً: عقد اجتماعات خاصة لنقاش المآسي والمظالم والقصور والتنكر والتجاهل المتبع وتقديم الإجابات عن الأسئلة التي طرحها كل فدائي وفدائية وكل مناضل ومناضلة. بقي القول كم كان ابو علاء منصور وفياً ومخلصاً وصادقاً في إيصال الوجع والغضب والمعاناة والأنين الى عدد كبير ومتزايد من الناس، يجوز القول أن ابو علاء كان ممثلاً شرعياً حقيقياً للمنسيين.

[email protected]

التعليقات