عقلية المؤامرة (2من 2)

عقلية المؤامرة (2من 2)
عقلية المؤامرة (2من 2)

عبد الغني سلامة

مع أن نظرية المؤامرة موجودة منذ أقدم الأزمان، إلا أن بعض الكتب، كرست هذه النظرية وغذتها؛ مثل كتاب "لعبة الأمم"، و"حكومة العالم الخفية"، و"أحجار على رقعة الشطرنج"، و"الماسونية العالمية"، و"بروتوكولات حكماء صهيون". وهذه الكتب، وغيرها، ضللت الناس كثيرا، وأسهمت في تعميق أزمات العقل العربي، وجعلت تفكيره مشوها.  

وإذ نبين خطأ نظرية المؤامرة، وانحرافها عن التفكير المنطقي، ومنهاج البحث العلمي الموضوعي، فإننا نبين الآثار التدميرية لهذا النمط من التفكير السلبي.

ذهنية المؤامرة هي النقيض المباشر للتفكير العلمي، لأنها لا ترتكز على أسس موضوعية، وهي عقلية غيبية تؤمن بالخرافات، ومستعدة لتصديق أي شيء، مهما كان مبالغاً، طالما أنه يدعم أحكامها المسبقة، وهي عقلية سلبية، تنطلق من الإحساس بالهوان والإقرار بالهزيمة، وتؤسس مدرسة العجز الذاتي؛ فهذه العقلية تصور العدو على أنه عملاق مخيف قادر على كل شيء، وتفصلنا عنه سنوات ضوئية من التطور والعلم، ولا نملك إزاءه إلا الرضوخ والتسليم، لأننا حسب هذه العقلية خِرافٌ تُساق إلى المسلخ دون القدرة على الاحتجاج.

وإضافة إلى ذلك فإن ذهنية المؤامرة تضلل الجماهير، وتجعلهم في واد والحقيقة في واد آخر، لأن تفسيرها للأحداث ينبني على أساس وهمي خرافي، سيوصل بالضرورة إلى نتائج مغلوطة.. وهي أيضا تجعل الجماهير مجموعة متفرجين، مترقبين، ينتظرون النتائج، بدلا أن يكونوا لاعبين، مؤثرين، يصنعون الحقائق والتاريخ، لأن الواقع والحياة على حد تعبيرهم مسرحية أُعد فيها كل شيء بعناية، وما تصريحات الأطراف ومواقفهم المعلنة إلا توزيع أدوار.

وأصحاب ومؤسسو هذه العقلية، هم أصحاب الفلسفة المثالية والفكر الأفلاطوني؛ الذين يترفعون عن الخوض في التفاصيل، ويلجؤون إلى الأبراج العاجية، ليوزعوا التهم ويلقوا باللوم على الاستعمار والمؤامرة، ويبرئوا ساحة الجماهير من مسؤولية الهزائم والانكسارات والهوان، ويعفوهم من دورهم وواجباتهم، ويباركوا لهم سلبيتهم وتخلفهم، لأنهم لا حول لهم ولا قوة.

وهنا لا ننفِي وجود منظمات سرية، وقوى خفية تعمل في الظلام، وتتآمر، مثل المحافظين الجدد في البيت الأبيض، والمنظمة الصهيونية، ولن نقلل من خطرهم، ولكن دون أن نهوّل الأمور؛ فـنُعظّم من شأن عدونا، ونصغّر من شأننا، حتى نفقد الثقة بأنفسنا، وبالتالي نعدم الأمل بالمستقبل؛ فيموت فينا الطموح، وتخبو الأماني، ويستبد بنا اليأس، وهذا أخطر ما في الموضوع، فيجب أن ندرك أن عدونا قوي ومنظم، ولكن من الممكن هزيمته.

والغريب أن نظرية المؤامرة غالبا ما تقترن باليهود، ودورهم الخفي في التاريخ، وأحيانا بأميركا والاستعمار (طبعا أميركا المحكومة من اللوبي اليهودي).. وأحيانا، بدرجة أقل بإيران، وحتى في هذه الحالة تصبح إيران الصفوية، المجوسية، المتحالفة مع اليهودية.. وإليكم بعض الأمثلة:

أقدم مثال، هو اليهودي عبد الله بن سبأ.. والذي اقترن بالمؤامرات على الإسلام، والفتن، ونشوء الفرق، والشيعة ووو.. وكأنَّ شخصا واحدا قادر على التلاعب بمصير أمة، مع تغييب كامل لكل عناصر التناقضات والصراعات التي كانت موجودة، وتعتمل فيها، مثل أي مجتمع إنساني.. وهو في الحقيقة عبارة عن شبح تاريخي، لا وجود له، وقد تم اختلاقه لدوافع أيديولوجية.  

عائلة روتشيلد، والتي اقترنت بالثراء الفاحش، والبنوك، والسيطرة على الاقتصاد والإعلام في العالم، وبالتالي السيطرة على السياسة والحكومات والشعوب.. وهذه كلها تهويلات غير صحيحة، وهذه العائلة تم إفقارها واستنزاف أموالها في الحرب العالمية الثانية، وباتت مجرد فلكلور. 

كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون"؛ الذي استطاع أن يقنع قسما كبيرا من الناس بمن فيهم مثقفون، بأن جميع ما يجري حاليا من أحداث، وحروب، ومعاهدات، وانهيارات، وأنماط سلوكية.. قد خُطط له بشكل دقيق من قبل المنظمة الصهيونية، أو اليهودية العالمية قبل مائة سنة على الأقل، وهي جميعها مدونة في هذا الكتاب الخرافي.

الماسونية، التي تُحاط دوما بالغموض والقصص المثيرة، وبالمبالغات اللاعقلانية.. في واقع الأمر، ما هي إلا جمعيات سرية تتستر خلف دعاوى اجتماعية، يلتقي فيها من مختلف جنسيات العالم أناس لهم مصالح خاصة، وهـم من الطبقات المخملية وأصحاب مراكز حساسة، وبالتأكيد لهم طقوسهم ولوائحهم الداخلية، ولكن الأكيد أيضا هو أن قوتهم ونفوذهم وسيطرتهم على البنوك والإعلام والدول والرؤساء هو أمر مبالغ فيه جدا. 

ودعونا نطرح بعض الأسئلة حول "الماسونية العالمية": ما هي تشكيلاتهم الاقتصادية والسياسية؟ من هم زعماؤهم؟ وكيف تلتقي مصالحهم إلى هذا الحد، رغم التباين الواضح بين مصالح من هم في الشرق ومن هم في الغرب؟ ولماذا لا تطفو مشاكلهم على السطح ولا نسمع عنها شيئا؟ قبل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها دعونا نتحرر من عقلية المؤامرة، ونعطي الأمور حجمها الطبيعي، دون مبالغة أو تصغير، فالتاريخ لم يعرف قط أي تشكيل اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، سواء كان حزبا أو دولة، أو حتى عصابة؛ لم تنشأ بين أعضائه مشاكل ونزاعات، كانت تصل إلى حد القتل في كثير من الأحيان، لماذا ستشذ الماسونية عن هذه القاعدة؟ وما هي هذه العقول الجبارة المتفوقة على عقول البشر، القادرة على كل هذا التخطيط والتآمر؟

اللوبي الصهيوني، الذي استطاعت أميركا أن تضخم من قوته وسطوته في أذهاننا، وفي داخل أميركا نفسها، مستفيدة من ذلك في أمرين، الأول: إعطاء مبرر لحكام العرب أمام شعوبهم للتحالف مع أميركا، بحجة أنها محكومة من اللوبي الصهيوني، وبالتالي فهي بحاجة إلى دعم العرب للتحرر منه ومن ضغوطاته، الثاني: إعطاء مبرر للإدارة الأميركية أمام دافع الضرائب الأميركي، الذي يرى أمواله تحول إلى صندوق دعم إسرائيل، بينما يعاني مجتمعه من البطالة.

وهذه الخرافات والسذاجات ضللت البشرية طويلا، وغيرت أولوياتها، وأبعدتها عن الحقيقة وطرق مواجهتها.. وآن الأوان للشعوب العربية أن تستيقظ، وأن تنفض عن عقلها غبار الخرافة والغيبيات، الذي تكوم فوقه قرون طويلة. 

إن الصراع بين قوى التغيير صاحبة الحق، وبين القوى المسيطرة الغاشـمة سيستمر، وسينتصر الحق في نهاية المطاف، حتى لو كنا شعوبا مستضعفة، شريطة أن نمتلك أسس التفكير والتخطيط العلمي والإيمان بحتمية النصر، فمجرى الزمان بمثابة وعـاء فارغ، تستطيع أي قوة اجتماعية مهما صغر شأنها أن تملأه، ولكن بعد أن تمتلئ هي ثقة بنفسها.

التعليقات