عقلية المؤامـرة (1من 2)

عقلية المؤامـرة (1من 2)
عقلية المؤامـرة (1من 2)
عبد الغني سلامة

"التاريخ ليس مؤامرة كبرى، ولكنه لا يخـلو من المؤامرات الكبيرة"، الفرق بين المقولتين كبير؛ فالأولى تنفي أن يكون التاريخ حلقة متصلة من مؤامرة كبرى أعدتها قوة عظمى ذات عقلية رهيبة (قوى الشر والطغيان)، بينما تؤكد المقولة الثانية أن المؤامرة مورست تاريخيا، عندما كانت تلتقي مصالح مجموعة قوى مسيطرة عند نقطة معينة، كمحاربة طرف آخر، أو الوصول إلى هدف ما بوسائل ملتوية وطرق لا تخلو من الشر والمكيدة، بالخفاء والعلن.

والذهنية التي تربط دوما بين الأحداث وبين مؤامرة أعدها الأعداء، يطلـق عليهـا "ذهنية المؤامرة"، وأصحاب هذه العقلية يؤمنون بوجود مثل هذه القوى القادرة على التخطيط والتنفيذ والتحكم بالنتائج بما يحقق مصالحها، ويطلقون على هذه القوى تسميات عديدة مثل الماسونية العالمية، حكومة العالم الخفية، الصهيونية، الاستعمار، المخابرات.. الخ، ويعتقدون أن هذه القوى تجتمع في غرف مقفلة، وتقرر وتخطط وترسم الخطوط العريضة لأحداث المنطقة، وبكبسة زر تستطيع أن تتحكم بمصائر الشعوب، فهي تفتعل الأحداث والحروب والمعاهدات، وتهدم دولا وتبني أخرى، وتنصّب الرؤساء، وتعزل من يخالف أمرها، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدها القوة والملكوت، وتلعب بالمنطقة كأنها رقعة شطرنج. 

هنا لا نبالغ في تصوير هذه الذهنية، فهناك فئة من الناس من فرط تهويلها للأمور، تفسر التاريخ وتفهمه انطلاقا من نظرية المؤامرة فقط؛ فيعتقدون مثلاً أن هذه القوى هي التي بنت الاتحاد السوفييتي، وهي التي أمرت بهدمه! وهي التي تسببت بالحربين العالميتين، وبكل الحروب الإقليمية، وهي التي أوقفتها عندما تحقق لها مرادها، وهذه القوى هي التي صنعت الثورة الفرنسية والحرب الأهلية الإسبانية، وهي التي بنت الدول، ورسمت الخارطة السياسية الكونية، وما زالت تتحكم بها.. وهي التي صنعت إسرائيل، وتسيطر على أميركا وأوروبا، وأن جميع حكام العالم الثالث، وبشكل خاص حكام العرب، ما هم إلا ممثلون بارعون لأدوار محددة سلفا، لا يستطيعون تجاوز النص، ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك، فيجزم بأن هذه القوى هي التي صنعت منظمة التحرير الفلسطينية، وهي التي أشعلت الانتفاضة ثم أوقفتها لتوصلنا إلى اتفاق أوسلو، حتى يتسنى لها تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي! وحتى الثورة الجزائرية وثورة 23 يوليو في مصر، واستقلال البلاد العربية من الاستعمار الأجنبي المباشر، وكل أحداث المنطقة العربية في القرن العشرين، وكذلك ثورات الربيع العربي.. ما هي إلا نتائج مخططات هذه القوى الرهيبة!!

بمعنى أن هذه القوى لها القدرة الخارقة على نقل الأمم من مرحلة إلى أخرى، وتسيير دفة التاريخ، والتخطيط المسبق لعشرات ومئات السنين، ومن الممكن أيضا أن تتحكم بالكوارث الطبيعية، ومعدلات النمو السكاني، وتلويث البيئة، وكسوف الشمس إذا ما أرادت ذلك!

والنقاط التالية لدحض وتفنيد نظرية المؤامرة:

- إن مسار التاريخ وتطور الحياة وتشكل الأحداث، ما هي إلا إفرازات طبيعية لتعقيدات الحياة بكافة جوانبها، واستجابة طبيعية لحركة النمو والتطور الإنساني، ومرآة صادقة للواقع بكل إحداثياته؛ فالواقع هو انعكاس للبيئة بتفاصيلها الدقيقة التي تؤثر بعضها على بعض سلبا وإيجابا، فمنذ بدء الخليقة وُجد التناقض والصراع بين كل الأشياء، ومن خلال النقيضين يولد شيء جديد يحمل بذرة التناقض، وهكذا دواليك، والتراكمات الكمية تؤدي الى تغيرات نوعية.

- الصراع موجود منذ الأزل، وباق إلى الأبد بين كل النقائض: بين الخير والشر، وبين الجديد والقديم، وبين الطبقات الاجتماعيـة، وبين الأجيال.. والمادة نفسها تحوي داخلها نقيضها، والأشياء تتحد مع بعضها البعض لفترة معينة ثم ما تلبث أن تتصارع، وعلماء الاجتماع (منذ ابن خلدون ومن تلاه) انطلقوا في تفسيرهم لنشوء الحضارات (والدول) ورقيها وبلوغها أعلى مراحل القوة، ثم انهيارها، لتنشأ حضارات ودول جديدة على أنقاضها، انطلقوا من مفاهيم التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية والاقتصادية، ومفهوم وحدة وصراع الأضداد؛ فمع كل خطوة إلى الأمام، يُـخلق واقع جديد، يحمل في طياته إمكانية تغييره "الحتمية"، ولولا ذلك لفنيت الحياة، أو توقفت عند اكتشاف الزراعة.

- اختلاف الآراء وتعدد الثقافات وتباين التوجهات وتضارب المصالح، هي الأسباب الحقيقية للتغيير، والضمانة الأكيدة لديمومة الحياة وتنوعها وثرائها، وبالتالي إعمار الأرض وتقدم الإنسانية، فالتغيير غالبا يحدث من القاعدة بسبب تناقض المصالح والحاجة إلى الجديد، وليس نتيجة إملاءات فوقية، أو أوامر من الزعيم الخفي.

- وكما أن المادة لا تنشأ من الفراغ، فإن الأحداث الكبرى والمفاصل التاريخية أيضا لا تنشأ من الفراغ، ولا تتكون صدفة، بل تأتي بعد مقدمات تاريخية وإنضاج للعاملين الذاتي والموضوعي؛ فتأتي في موعدها التاريخي، أو بسبب الضرورات الوطنية والاقتصادية، وبسبب تطور أشكال الحياة، تأتي الحاجة إلى نظام يواكب هذا التطور، فالحاجة أم الاختراع.

- ولطالما كانت المصالح الاقتصادية على مر التاريخ هي المحرك الرئيسي للتغيير، سواء في الحرب أم في السلم؛ فالمصالح الاقتصادية وبعد نشوء الـمُلكية الخاصة كانت هي المحور الذي تتشكل عليه الطبقات الاجتماعية، ما أدى الى تطور الحياة الإنسانية.

- اقترن التغيير تاريخيا بالعنف، والثورات الاجتماعية، والانقلابات، والحروب، وما ينتج عنها من متغيرات جديدة.. دون إهمال دور النخب والمثقفين الذي كان يأتي عادة بدور المحرض. 

- معظم الأحداث والتشكيلات والمسارات جاء استجابة ونتيجة لأحداث سبقتها، ولولا وقوع تلك الأحداث لما نشأ الواقع الجديد.. وفي كل مرة تبرز عشرات الاحتمالات لشكل وقوة "ردة الفعل"، وفي النهاية مسار معين هو الذي يفرض نفسه، متأثرا بالعوامل المحيطة. 

- لا ننفي وجود البعد الثقافي والديني والروحي، أو نقلل من شأنه كأحد محركات التاريخ، لكنَّ هذا البعد لم ينشأ من الفراغ ولم يكن معلقا في الهواء؛ فالرسالات السماوية كانت على الدوام ملائمة للأقوام التي حملتها لغةً وثقافةً وتشريعاً.. والبعد الروحي والديني لعب دورا مهما على مر التاريخ، ومثلما كان سببا في انتصار العرب وانتشار الإسلام وازدهار الحضارة العربية الإسلامية بدوافع عقائدية، كان أيضا، في كثير من الأحيان، ساترا لدوافع اقتصادية، وصراعات قبلية، ومبررا لأطماع دنيوية محضة، أو غطاء لظلم الحكام، أو نصوصا مقدسة يتمترس خلفها المحافظون، وأصحاب المصالح.

كيف أثرت نظرية المؤامرة على العقل العربي.. موضوع المقال القادم.

 

التعليقات