شعارات مزيّفة

شعارات مزيّفة
بقلم: عبد الغني سلامة 

في مستهل الثورة البلشفية، اعتقل الثوار «نيقولا الثاني»، آخر القياصرة الروس، ثم وضعوه مع عائلته تحت الإقامة الجبرية، تمهيدا لإعدامهم.. في تلك الأثناء، كان القيصر يأمل بحدوث معجزة ما، وعندما أتته رسالة من أحد أتباعه، ظن أن الشعب بأسره سيثور على البلاشفة، ويعيده للقصر.. وحينها قال: «الربيع قادم، وسيحمل معه الأخبار الطيبة.. بوسعهم قطع كل الورود، لكنهم لا يستطيعون منع الربيع من أن يأتي».
بالطبع، لا أحد بوسعه منع قدوم الربيع، فالشعار صحيح دون شك، ولكنه لا ينطبق على القيصر؛ فالربيع الذي انتظره لم يأتِ أبداً، وقد تم إعدامه مع عائلته في آذار 1917. كل ما في الأمر أن القيصر كان «متعربشا» بأحبال الوهم، ظانا بأن الشعب يحبه، ومستعد للتضحية من أجله. 
مثل هذه الحالة، نعرف من تاريخنا الحديث ما لا حصر له من الأمثلة، ليس التعلق بشعارات وهمية وحسب؛ بل وأيضا توظيف الشعارات (الصحيحة) لأغراض أخرى معاكسة، وبطريقة مضللة: روسيا نفسها، التي ستصبح الاتحاد السوفييتي، وعدت شعبها بيوتوبيا المدينة الفاضلة، والزمن الشيوعي، ورفعت شعارات العدالة والاشتراكية.. لكن كل ما فعلته أنها وزعت الفقرَ على الشعب (بعدالة)، وأقامت نُظماً شمولية، سرعان ما فتكت بها سوسة الفساد.. 
أميركا تخوض حروبها تحت شعارات «مكافحة الإرهاب»، و»نشر الديمقراطية».. بيد أنها وخلال الثلاثة عقود الأخيرة، خاضت 13 حربا، أنفقت عليها 14 تريليون دولار، وقتلت فيها مئات الآلاف من البشر، أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، وتبين أنها الداعم الأكبر للإرهاب.
في العالم الثالث، الدول الأكثر استبدادية، تسمي نفسها عادة جمهورية كذا الديمقراطية.. في إفريقيا، كلما كان اسم الحزب أو الميليشيا أجمل وأرق، كانت ممارساته وحقيقته أبشع وأفظع.. (جيش الرب، العدل والمساواة، الإنقاذ الوطني، العدالة والحرية..)، ربما ميليشيا «بوكو حرام»، وحدها من يشذ عن القاعدة، حيث إن اسمها يتناسب مع قبح ممارساتها؛ «بوكو حرام» تعني «التعليم الغربي حرام». 
الزعيم عبد الناصر، رفع شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، ربما كان صادقا في توجهه، معطيا الأولوية الأولى للحرب، لكن هذا الشعار صار ذريعة لطبقة العسكر لمنع المشاركة الشعبية، ومنع انتقاد النظام، ووأد أي بادرة ديمقراطية.. وعندما أتى السادات رفع شعار «دولة العلم والإيمان»، الذي كان إيذانا بعصر الانفتاح، والإسلام السياسي، وكامب ديفيد، وفي المحصلة كانت الدولة والمجتمع أبعد ما يكونان عن العلم، وعن الإيمان.. حزب البعث بشقيه السوري والعراقي، منذ أن استلم السلطة، وهو يرفع شعارات الوحدة، وكان كل ما يفعله طرفا الحزب: التنازع والصراع والفُرقة.
بعض أحزاب اليسار، ما زالت تتخذ موقف الحياد، أو الانتقاد الخجول إزاء ما يجري من جرائم قتل للنساء بمسمّى «جرائم الشرف»، والتعديات على حقوق المرأة، وعلى مدونات الأحوال الشخصية، ومحاولات أسلمة دساتير الأنظمة، وأسلمة مناهجها التعليمية، بل وتتحالف مع قوى يمينية وأحزاب دينية طائفية. وعلى المستوى الفردي، يؤدي أمناؤها العامون مناسك العمرة، ويخجلون من نشر صور زوجاتهم على الفيسبوك.  
عدد من الأحزاب الإسلامية التي فقصت من بيضة الإخوان المسلمين، ألصقت بأسمائها الجديدة كلمة «العدالة»: في مصر، حزب العدالة والحرية، في المغرب حزب التنمية والعدالة، في تركيا حزب العدالة والتنمية.. وهذه الجماعات ما زالت تؤمن في أدبياتها بالعبودية، والجزية، وغنائم الحرب من الجواري والغلمان. 
غواية الشعار، واستعماله الدوغمائي، كان صنعة أحزاب الإسلام السياسي، فشعارها الأشهر «الإسلام هو الحل»، أكثر شعار تضليلي جرى توظيفه لأغراض الفوز بالانتخابات، ولأغراض حزبية أخرى.. ورغم فوزها في أكثر من انتخابات، وتوليها السلطة أكثر من مرة، لم تقدّم أي حل، بل صارت هي نفسها المشكلة. 
الشعار الثاني الأكثر رواجا في صنعة السيطرة على الجماهير، وإقامة سلطة الأمر الواقع، هو شعار «المقاومة».. فتحت ذريعة مقاومة إسرائيل، كان يتم الإتجار بعذابات الجماهير، والتضحية بأمنهم وبمستقبلهم، وتوظيف «المقاومة» لأغراض داخلية محضة، وللاستحواذ على نصيبها من الكعكة ضمن لعبة التوازنات الداخلية.. وفي النتيجة يحل الخراب في كل منطقة تبتلى بسيطرة قوى المقاومة. 
ولجمع «الحسنيين»، كان يتم دمج شعارات «الإسلام»، بشعارات «المقاومة»، واحتكار الله، لنحصل على توليفة مثالية، لا يجرؤ أحد على انتقادها.. «حزب الله»، «حركة المقاومة الإسلامية»، «الجهاد الإسلامي».. علما بأن المقاومة الحقيقية متوقفة تماما في مناطقها، ولأجل غير مسمى. 
شعار «الإصلاح»، أيضا من الشعارات التي تلقى رواجا في الخطاب السياسي والإعلامي العربي.. وهو ما تعِـدُ به كل حكومة تأتي بعد استفحال أزمات البلد؛ فتمنّـي الشعب بإصلاح الحال، واستئصال الفساد، ومكافحة الفقر.. وما يحصل على أرض الواقع: إصلاح أوضاع الوزراء أنفسهم، وترقية الفاسدين، ومكافحة الفقراء. 
نفس مشكلة وغواية «الشعار» تنطبق على «الأهداف»؛ فالحكومات العربية، وكذلك الأحزاب والقوى السياسية، وحتى نقابات صالونات التجميل، وجمعيات مربي النحل.. تمارس نفس الخطأ.. وضع أهداف غير واقعية، أو الخلط بين الأهداف والغايات والوسائل. 
أعرف شخصاً يضع لنفسه هدفين كل رأس سنة: تخسيس وزنه، والتوقف عن التدخين.. وبالفعل، ينجح في كل سنة بالامتناع عن التدخين لمدة شهر أو شهرين، خلال هذين الشهرين تنفتح شهيته على الأكل (بسبب متلازمة تناوب الإدمان)، فيُقبل على تناول المزيد من الأطعمة والمشروبات، حتى يكسب وزنا إضافيا، ثم يقرر العودة للتدخين لكي يقطع شهيته للأكل، لكنه يفشل بخسارة ما تم كسبه من وزن إضافي، وهكذا ما زال يفعل ذلك منذ عشرين سنة، حتى تكرش وتضخم، وصار أكثر بدانةً، وأشـدّ شراهةً في التدخين. 
أحزابنا وأنظمتنا وحكوماتنا وعدتنا قبل سبعين سنة بالتحرير، والتنمية، ونشر الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والرفاهية.. ونحن ما زلنا نهوي للأسفل كل سنة نحو قاع جديد. 

التعليقات