مُؤرخات صغيرات يُوثّقن سيرة الأغوار

مُؤرخات صغيرات يُوثّقن سيرة الأغوار
رام الله - دنيا الوطن
سردت زهرات عين البيضاء في الأغوار الشمالية شهادات شفوية من وحي روايات أجدادهن، وتحدثن عن قصص شهدتها التجمعات الغورية خلال عامي 1948 و1967.

وحملت الحلقة الأولى من سلسلة (ذاكرة) تدوينات لمبادرة (مؤرخات صغيرات)، التي أطلقتها وزارة الإعلام، وهيئة التوجيه السياسي والوطني، بالتعاون مع مديرية التربية والتعليم، نهاية الخريف الفائت.

ونقلت أميمة فقهاء: كانت جدتي تساعد أمها في تحضير الغداء، وسمعت صوت قنبلة قرب بيتها، فهرب الجميع إلى الجبال والكهوف المجاورة، وراحوا يقولون إن “اليهود احتلوا البلاد وقتلوا الناس”، ووصل طوباس أهالي من جنين وقراها، وفروا نحو الشريعة (نهر الأردن).

وتابعت: كانت جدتي ابنة 14 سنة، وحملت على يديها أختها الرضيعة، فهربت من بيتها تحت الشمس الحارقة، واجتازوا النهر من مخاضة (مكان عبور وسط المياه) قريبة، ونصبوا الخيام، ثم انتقلوا إلى وادي اليابس.

وروت أمل فقهاء على لسان جدها صالح: كان يوم جمعة حين جلسنا لتناول الكرشات، وفجأة صار الرصاص مثل المطر، وانتقلنا من مكاننا، ولم نشاهد غير بيوت محروقة، وسمعنا صراخ الفارين من الموت. والتقينا بجارتنا أم عبد الله، التي كانت تلبس ساعة بيدها وتحمل أغراضها على رأسها، وتسير تحت الشمس، وبعد وقت قصير أصابتها قذيفة قتلتها، وحفرت حفرة كبيرة في الأرض، وهربنا إلى جبال جباريس، وأقمنا ثلاثة أيام، حتى وصلنا هاربون من جنين وعقابا، وقالوا” يا ناس: أشردوا، يا ناس لحقوا حالكم، اليهود قتلوا وذبحوا..”

موت وحياة

ووفق شهادة الجد لحفيدته، سار الفارون من الموت صوب ينابيع المالح، واجتازوا تل أبو عنيز، ومنطقة أبو سيدو، ومشوا حتى الحصن شرق النهر، وجلسوا في الخيام، وحين جاء المخاض لزوجته، رزقوا بطفلة اسمياها (هاجر) لأنها جاءت وقت المحنة وتركهم لبلدهم، وأمضوا قرابة سنتين في الأردن، وحين وصلوا وجدوا دارهم مهدومة، وأقاموا “خشة” صغيرة، وذاقوا المَرار.

ووثقت شيماء فقهاء حكاية جدتها نجية على دراغمة، كما روتها أمها غادة: هربنا من الموت خلال نكبة 1948، وتفرق شملنا، فبقيت أنا في الأغوار، ورحل أهلها إلى الأردن، واجتازوا حدود لبنان، ووصلوا إلى سوريا. كانت عائلتنا من 6 أولاد و3 بنات، وتوزعنا على الأردن، وسوريا، والصين، والأغوار.

وتابعت الحفيدة نقلًا عن والدتها: لم تستطع جدتي الالتقاء بأفراد عائلتها، ولم تجتمع بهم في الأفراح والأعياد والأحزان، وعندما كبرت فقدت ذاكرتها، وحين عاد أخوتها لم تتذكرهم.

وأوردت ديما أبو صبح حكاية جدها عوض، كما قدمها والدها وبلسان الغائب: كنا نعيش في بسان قبل عام 1948، أنا وزوجتي فاطمة، وابني محمد، وبناتي صبحية وزهيرة وفتحية وصبرية، وكان يعاني من السمع، وحين حلت النكبة رفضت الخروج من بيسان، واعتقدت أن الجيوش العربية ستخلص بيسان من المحتلين، فغادرت كل عائلتي، ودخلت عليّ العصابات الصهيونية، واستشهدت، وعاش أولادي وأحفادي في طوباس وعين البيضاء، وذاقوا النكسة، وأجبروا على ترك بلدهم إلى الأردن.

وسردت رماء فقهاء رواية طلال يوسف أبو العايدة، التي لخصت تصفية الاحتلال لثلاثة شبان: اجتاز محمود أبو حلوة، وفايز أبو بحور، ومحمود عواد الشريعة، ووصلوا مخاضة أبو السوس، ثم عين البيضاء، وجلسوا قرب بيارات التميمي، وألقى جنود الاحتلال القبض عليهم، ثم قتلوهم بدم بارد أمام الناس.

زهرات وفولاذ

وأوضح منسق وزارة الإعلام في طوباس والأغوار الشمالية، عبد الباسط خلف، أن برنامج التاريخ الشفوي الجديد، يتقاطع مع سلسلة (ذاكرة لا تصدأ)، المنفذة منذ ست سنوات بالشراكة مع اللجنة الشعبية للخدمات في مخيم الفارعة، وتضمنت إعادة بناء القرى المدمرة عام 1948، بتفاصيلها الإنسانية والدقيقة، وتتبعت لحظة الاقتلاع منها، ورصدت الحنين المُشتعل لها.

وأشار المفوض السياسي والوطني العقيد محمد العابد إلى (ذاكرة) ينفذ في عين البيضاء الحافلة بقصص العبور والنكسة والصمود، كما يتتبع حكايات شفوية لطمون الحاضرة بتضحياتها القديمة -الجديدة، مثلما يرصد التاريخ الشفوي للقرى المدمرة كما ينقله طلبة مدارس مخيم الفارعة من أجدادهم.

وبيّن أن القصص ستُوثق في كتاب، وستُنشر ملخصاتها في وسائل الإعلام، كما ستُقدم بقالب مرئي في مراحل متقدمة من المبادرة المتواصلة.

وأفادت المعلمة فلسطين أبو زهور من “بنات عين البيضاء الثانوية”: تحدت وردات مدرستنا النسيان برصد ذاكرة بنفسجي اللون، من خلال جمع التاريخ الشفوي من السنة الكبار، الذي يتضمن حكايا التهجير التي عاشها أهالي عين الساكوت والحمة والدير والتجمعات الغورية. وجرى إعدادهن لجمع التاريخ الشفوي، ورصده بموضوعية وصدق، ومناقشته بجلسة تحاورية، ووثقت القصص خلال تشرين الثاني وكانون الأول على مراحل.

وتابعت: من الجيد أن نفكر، وأن نصوغ فكرة تشعرنا بسعادة ما، وأن نتمكن من إبقاء الذاكرة على قيد الحياة، فلا الرصاصة التي مزقت الأحشاء، ولا الألغام التي فتت الأبدان ونثرتها فوق عشب أخضر شبعت من دمنا، ولا الصرخات التي تآكلت حناجرها، وهي تسبح باسم الرب تحت السحاب، ولا الضوء المنحبس عن عيوننا قادر على النسيان.

وتساءلت أبو زهو: على نسيان من يجري الرهان؟ أعلى تراب هو لحم أجدادنا؟ أم على صغار يرضعون الصخر ويكبرون قبل الفطام؟ فالنار تقتات من أبداننا لتكن سراجًا يمضي به الصغار، والشوك الذي يُبذر أمامنا سندوسه رغمًا عن وجعنا.