بين الخليل ونابلس: ثلاث أمهات أمضين حياتهن في ولادة دائمة

بين الخليل ونابلس: ثلاث أمهات أمضين حياتهن في ولادة دائمة
بين الخليل ونابلس: ثلاث أمهات امضين حياتهن في ولادة دائمة

بقلم عيسى قراقع

بتاريخ 10/1/2019 أفرج عن الأسير الفلسطيني كامل الخطيب سكان مخيم بلاطة قضاء نابلس بعد قضائه 16 عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، توجه مباشرة إلى مستشفى الاتحاد في المدينة للقاء والدته المقعدة والمريضة والتي دخلت في غيبوبة بعد وعكة صحية، وفي غرفة العناية المكثفة طبع على جبين والدته سبعة عشر قبلة دافئة، فتحت الأم عينيها وشدت بيدها على يد ولدها وأسلمت الروح بعد ان تأكدت ان ابنها عاد من الغياب.

أم الأسير كامل الخطيب لم تتمكن ان تلبس ولدها المحرر إكليل الزهور الذي أعدته له، ولم تستطع ان تزغرد وترقص وتشارك الجميع الفرحة والبهجة بعودة ابنها من وراء القضبان، وكانت آخر نظرة وآخر شهقة، لكنها رحلت بعد ان زرعت الوعد ولم تضع الطريق، توقف الكلام فقد وصل المنتظر، وأكملت في هذه اللحظات الكلام الذي لم يقله الهواء لأغصان الشجر.

انتظرت أم كامل الخطيب طويلا، وكانت أشبه برواية متكاملة المكان والزمان والجسد، اللحم والعظم والأنفاس والأشواق الآن تتوحد، لم تستطع ان تؤجل الموت قليلا لتتنهد على صدر ولدها وتسافر معه في حوار وعناق طويل، هناك علاقة بين الموت والحرية في الزمن الفلسطيني، وهذه الأم أمضت حياتها تتمرن على اللقاء الأخير والولادة المتكاملة، حفظت أسماء كل السجون، حارسة المخيم، أم المناضلين والفقراء، في يدها الخبز والمفتاح والأمل والحجر واليقين، ما أفصح البراكين في جبال نابلس، وما أجمل شهوة الانفجار، ما أعمق قلب الأمهات. 

مضت نابلس في الجنازة،مضت إلى ما وراء البحر والغيب، هلال في جبين أم كامل الخطيب، نجوم في قدميها، قلبها شمس تطل على آلاف المعتقلين، المشيعون رأوا كيف تدلت السماء وفاضت أمطارها، الجبال والشجر والبيوت تنحني أمامها كأنها تقبل الأرض فوق جبينها.

بتاريخ 25/1/2019 توفيت أم العبد سكافي سكان مدينة الخليل، والدة الأسيرين علاء ويوسف المحكومين بالمؤبدات وحفيدة الشهيد احمد السكافي وحفيدة الشهيدة الطفلة عبير السكافي، وزوجة المناضل الكبير عبد الرحيم السكافي ( أبو العبد)، بعد ان عانت من أمراض عديدة وفقدت الذاكرة، لم يصل أبناؤها من السجن ليودعوها ويقراوا على روحها الفاتحة، ظلوا مقيدين خلف ظلمات السجون، نظروا إلى أمهم من صورهم المعلقة على جدار البيت، نزلوا عن الجدار، قبلوها طويلا قبل ان يغلق السجان الأبواب ويعلن حالة الاستنفار والحرب والقمع على أسرى سجن عوفر، قرانا على حائط البيت عبارة: أخاف كل أحبائي على الحيطان قد صاروا صور.

لحقت أم العبد بزوجها الذي اشغل الدنيا من اجل حرية الأسرى وكرامتهم، ترأس لجنة أهالي الأسرى في محافظة الخليل، كان بيته ساحة للاعتصامات والاجتماعات والنداءات والانتفاضات، تحرك أبو العبد في كل مكان، كان صوته افكاراً وعقيدة إيمانية بالحرية، كسر الأقفال وفتح النوافذ وبشر بالنبوءات السماوية.

أم العبد لم يشهد بيتها يوما عرسا أو فرحا، كل في البيت دم وحسرات وعذابات، بيتها بيت كل فلسطيني، دمعتها دمعة كل أم فلسطينية، انفجرت ذاكرتها وأخذها النسيان، لم تحتمل عدد الراحلين والخارجين من باب البيت، من يخرج لا يعود، إما إلى السجن أو إلى المقبرة، لم تحتمل ان تظل وحدها، ان ترى كل يوم الجنازات الكثيرة التي تمر من الشارع، الموت اليومي في مدينة الخليل، القتل والإعدامات والاعتقالات وعربدات المستوطنين.

البعض يقيس مدينة الخليل وقراها تارة بالحياة وتارة بالموت، البعض الآخر يقيسها بعدد الحواجز والمستوطنات والمصادرات، وبعضهم يقيس المدينة بنظرات أم العبد السكافي عندما تقف في دوار ابن رشد تنادي على أولادها المعتقلين، صوت الأم، صوت السماء، امرأة نصفها نار ونصفها ماء وعطاء، تشعل الروح وتحرك الفضاء.

بتاريخ 3/1/2015 توفيت أم شادي الطوس سكان قرية الجبعة قضاء الخليل، زوجة الأسير محمد الطوس المحكوم بالمؤبد والذي يقضي 30 عاما داخل السجن، كانت تنتظر الإفراج عن زوجها في الدفعة الثالثة أو الرابعة من المعتقلين قبل اتفاقيات أوسلو وفق اتفاق الرئيس أبو مازن مع الجانب الإسرائيلي والأمريكي، أعدت أم شادي كل شيء لاستقبال زوجها الأسير، الحقل والبيت والكلمات والذكريات، كل شيء سوف يعود إلى أوله، سيطل محمد الطوس بعد قليل، هذا الشهيد الحي كما لقب بعد ان نجا من الموت بأعجوبة عند اعتقاله حيث أصيب بوابل من الرصاص، بدأت أم شادي ترتب أمنياتها القادمات، وفي وسط الفرح الآتي والزفة الصاخبة تعرضت لنزيف حاد في الدماغ، دخلت في غيبوبة لأكثر من عام.

أم شادي كانت الأم والأب طيلة غياب زوجها، حضنت الأولاد ورممت الغياب الموجع، بنت البيت الذي هدمته قوات الاحتلال أكثر من مرة، لم تيأس، هي الفلاحة التي تحمل الفأس بيدها اليسرى ودلو الماء بيدها اليمنى، تحرث الأرض، تشق الصخر، تفجر الينابيع، تسقي دوالي العنب وشجر الرمان ولا تنام.

لم تستيقظ أم شادي من غيبوبتها، انتظرت في رحلة الغيبوبة طويلا، لعل أبو شادي يعود ليوقظها، يرفع الأجهزة الطبية عنها، تتنفس، ليقول لها: الآن بدا أول الكون، ردي غطاء عمري الضائع علي، الآن سأوحد بين الحياة وما سوف تأتي وما تكتنز الذاكرة، استيقظي سوف نوقظ الأرض معا من غيابها ونغير الزمان، لي فيك أكثر من ذروة ومن شجرة، لي منك ما لا تراه الفصول، استيقظي ها قد عدت، لي فيك كل الحضور، لم تفرج حكومة الاحتلال عن الدفعة الرابعة، ظل أبو شادي في السجن، توقف قلب أم شادي وساد الصمت...

ما يجمع بين الأمهات الثلاث الغيبوبة وفقدان الذاكرة، الأمهات الثلاث توفين في شهر كانون الثاني، الرعد والمطر والبرق ونوار اللوز والعاصفة، الهواء ليس حرا، انطفأت الذاكرة، صارت المسافة بين الصحو واليقظة بعيدة، السفر من نابلس إلى الخليل مليء بالكمائن والحواجز والرصاص، مسحوا الأرض والذاكرة معا، تسير على حافة الجدار كأنك تسير على حافة السيف، المسافة بين السجن والحرية امتلأت بالضباب الكثيف، الرئة مخنوقة، الحياة فاضت عن الحياة ولم تأت الخاتمة.

توقفت الذاكرة، وبدت لدى الأمهات الثلاث كالذي ينتظر ما لا يأتي، أزمنة ضيقة متزاحمة وحزينة، تركننا ورحلن، وضعن بين أيادينا أكاليل ورد ورسائلاً وأحلاما، اعتذرن للمستقبل، قلب المستقبل مليء بفلسطين، وقد امضين حياتهن كلها في ولادة دائمة، توقفت الذاكرة، لكن الذاكرة كما قيل هي ابنة للبحر والزمن والغيوم القادمة.

بين الخليل ونابلس كان صوت الشاعر علي الخليلي ينادي: 

ابحث عن قميصك المبلول

عن عاطفة الأعشاب والذهول

عن مخيلة الدخول

عن ذاكرة الورق والأحجار والإنسان

موعد يفوت

موعد يجيء 

لم نمت، لم نفقد الأصابع المرتعشة

التعليقات