العبودية الطوعية

العبودية الطوعية
العبودية الطوعية

بقلم د. وليد القططي

كثيراً ما أُثيرت مسألة العبودية الطوعية لدى الكتاب والمفكرين والفلاسفة تحت عناوين مختلفة منها : القابلية للاستغباء , والقابلية للاستعمار , والاستحمار , والاستخفاف وغيرها , فهل يوجد عبودية طوعية فعلاً ؟ , وهل يوجد شعب أو أمة تقبل بالعبودية بمحض إرادتها وكامل اختيارها ؟ , وكيف تتغلغل العبودية الطوعية في صفوف الشعب ؟ , وهل إلى خلاص من العبودية من سبيل ؟ . هذه الأسئلة وإجاباتها هي ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في السطور التالية. 

يقول المفكر الفرنسي ( ايتيان دو لابويسي ) في مقالة له كتبها في القرن السادس عشر الميلادي نُشرت فيما بعد في كتاب بعنوان

 ( العبودية الطوعية ) عن كيفية تغلغل العبودية الطوعية في صفوف الشعب " ينتشر الداء السياسي في ظل حكم طاغية ما انتشاراً ضمن طبقات متعاقبة , فيتقرب إلى المستبد خمسة من الطامعين أو ستة , ليصيروا متواطئين مع مطالبه تواطئاً مباشراً , لكن هؤلاء الستة ما يلبثوا أن يصيبوا بالعدوى ستمائة من الأشخاص السلسي القيادة أو ذوي المنافع الكبرى , ليعود هؤلاء فيصيبوا ستة آلاف من المتزلفين الطامعين ... وهكذا حتى تصيب العدوى غيرهم من الطامعين الأذلاء ... إن العيون التي يترّصد بها السيد اتباعه إنما هي التي يتولون منحه إياها , وأن الأيدي التي تنهال عليهم بالضرب لا يأخذها إلاّ من بين صفوفهم ... لا سلطة لسيدهم عليهم إلا بهم , لذا يغدون بكل يسر شركاء اللص الذي يسرقهم والمجرم الذي يقتلهم , لم تستعبد الشعوب إلا لأنها استسلمت للفساد وقبلت بالاستغباء".  

والعبودية الطوعية التي سماها ( لابويسي ) القابلية للاستغباء , أطلق عليها المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) القابلية للاستعمار في كتابه ( شروط النهضة ) الذي كتبه عام 1948 م , وهو مفهوم يشير إلى اقناع المستعمر من يستعمرهم بتفوّقه عليهم وعدم قدرتهم على إدارة شئون حياتهم بدونه , وأنهم غير مؤهلين لحكم أنفسهم بأنفسهم ولذلك فهم بحاجة إليه , ويرى أن القابلية للاستعمار والرضى بالاحتلال قد تكون ناتجة عن الخضوع الطويل للاستعمار , أو قد تكون ناتجة عن صفات عقلية ونفسية ترسّخت في شعب معين أو أمة ما نتيجة طروف تاريخية قاسية تجعلها تشعر بالدونية تجاه الآخر المتفّوق حضارياً عليها , وبالتالي توجد لديها قابلية للاستعمار حتى لو لم يتم استعمارها بالفعل. 

وتناول الفيلسوف الإيراني (علي شريعتي ) في سبعينات القرن العشرين نفس الفكرة في كتابه ( النباهة والاستحمار ) وأطلق عليها ( الاستحمار ) وهو مصطلح يدل على الاستغباء الممنهج للشعوب الغافلة من لدن قوى الاستعمار أو النظم السياسية المستبدة من أجل إلهائها عن المطالبة بحقوقها وثرواتها , وهو تسخير للإنسان كما يُسّخر الحمار , وهو كل إلهاء للإنسان بأمر ليس من الأولى أن يشغل به من أجل الاستيلاء على متعلقاته حتى لو كان هذا الأمر إيجابياً في ظاهر الأمر , فالزهد قد يكون وسيلة من وسائل (الاستحمار) عندما نقنع الإنسان بأن يشتغل بالآخرة حتى تستولي على دنياه , والفن قد يكون وسيلة من وسائل (الاستحمار) نشغل به الشباب عن السياسة. 

وهذه المفاهيم قريبة إلى حدٍ ما بمفهوم ( الاستخفاف ) الوارد في القرآن الكريم في قوله تعالى عن فرعون قومه " فاستخف قومه فأطاعوه  إنهم كانوا قوماً فاسقين " هذا الاستخفاف من فرعون بقومه وصل إلى حد قوله لهم " وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري " ويوضح المفكر المصري (سيد قطب )كيفية الاستخفاف في كتابه ( في ظلال القرآن ) بقوله : " استخفاف الطغاة بالجماهير أمر لا غرابة فيه , فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة , ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودوا يبحثوا عنها , ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك وتلين قيادتهم فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين".

ومهما كان المفهوم المستخدم للدلالة على العبودية الطوعية فإن هناك سمات مشتركة تميز الحكام الطغاة الذين يقهرون شعوبهم ويسعون لاستعبادهم سواء كانوا غزاة من الخارج أو مستبدين من الداخل وضحها الفيلسوف المصري المعاصر ( إمام عبدالفتاح إمام ) في كتابه ( الطاغية ) وهي : طريقة الوصول إلى الحكم أو البقاء في الحكم تكون غير مشروعة , وعدم الاعتراف بقانون أو دستور في البلاد فإرادته هي والقانون ورغبته هي الدستور , وتسخير كل موارد البلاد لإشباع رغباته وملذاته , وعدم الخضوع للمساءلة والمحاسبة والرقابة من أي نوع , والاقتراب من التأله والتعالي والتكبر على شعبه , وإذلالهم بالقهر والقوة , وأنه يقرّب المنافقين والانتهازيين إليه ويُبعد المخلصين والصادقين عنه , إضافة للسخرية والاستهزاء والاستهتار بالآخرين من شعبه. 

وفي الختام فالعبودية لا يُمكن أن تكون طوعية وإن بدت في الظاهر كذلك , لأنها تتناقض مع الطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية التي فطرها الله تعالى على حب الحرية وكراهية العبودية , فهي عبودية جبرية بشكل أو بآخر سواء بالقهر أو الغفلة أو الخداع , فإن سكت شعبٌ ما على العبودية حينٌ من الدهر وبدا إنه رضخ لحكم الطغاة المستكبرين , فإنه لن يقبل بالعبودية إلى ما لا نهاية , ولن يرضى بالذل طوال الدهر , فلا بد أن تأتي لحظة الانفجار في وجه الطغيان , ولا بد أن يستفيق الشعب من سباته وتنهض الأمة من كبوتها ... فتتحطم أغلال العبودية وتنكسر قيود الذل ... وتُستعاد الحرية المفقودة. 

التعليقات