في ذكرى الانتفاضة الشعبية الكبرى

في ذكرى الانتفاضة الشعبية الكبرى
في ذكرى الانتفاضة الشعبية الكبرى

بقلم المحامية فدوى البرغوثي

يستذكر شعبنا هذه الأيام بكل الإجلال والإكبار والتقدير والإعتزاز الذكرى الحادية والثلاثين للانتفاضة الشعبية الكبرى التي انطلقت بتاريخ 9/12/1987، وسجلت تاريخاً جديداً للفلسطينيين وفتحت افاقاً جديدة ودشنت مرحلة تاريخية مختلفة بعد أربعة عقود من النكبة والتطهير العرقي وبعد عقدين من الاستعمار الكولونيالي عام 1967 وبعد 22 عام على انطلاقة الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح.  لقد شكّلت هذه الانتفاضة المجيدة حلقة مركزية في سلسلة النضال والكفاح الوطني الذي يقوده شعبنا على مدار أكثر من مائة عام وحتى الآن.

هذه الانتفاضة جاءت تتويجاً لكفاح متواصل ومتراكم من اللحظة الأولى لاستعمار الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة في حزيران 1967، وتمكن شعبنا رغم قبضة الاستعمار وسيطرته على كل الموارد والمقدرات ورغم بطشه ووحشيته من الصمود وبناء حركة وطنية فاعلة ومجتمع أهليّ ومدني متكافل ومتضامن ومتماسك، وأقام مؤسسات ريادية بمبادرات محلية مثل الجامعات والنقابات والإتحادات والجمعيات والبلديات والصحافة ودور النشر والمنابر الثقافية، وأنشأ هيئة قيادية تمثلت في لجنة التوجيه الوطني والتي تعرضت للتصفية والملاحقة ومحاولات الاغتيالات والإبعاد والاعتقال من قبل سلطات الاستعمار في مطلع الثمانينات، كما انطلقت ظاهرة إقامة وتأسيس الأطر والمنظمات الجماهيرية والشعبية لمعظم الفصائل الفلسطينية وفي كافة المجالات والقطاعات، وكان أبرزها حركة الشبيبة سواء الطلابية أو العمالية أو الاجتماعية والتطوعية والنسوية التي إنخرط في صفوفها عشرات الالاف ولقيت دعماً وإسناداً من قبل أمير الشهداء خليل الوزير أبو جهاد.

 لقد كان هذا التنظيم الجماهيري الممتد في أرجاء الأرض المحتلة هو سرّ شمولية واستمرارية الانتفاضة الأولى، وشملت حالة التأطير والتنظيم ذو الطابع الديمقراطي الوطني كلّ قرية ومخيم وحيّ ومدينة وجامعة وكلية و مدرسة و اتحاد و تجمّع و قطاع، وما كان للانتفاضة بطابعها الشمولي المنظّم أن تستمر لسبعة سنوات رغم وحشية القمع لولا هذا الانتماء الشعبي الشامل ولولا حالة التنظيم ولولا حالة التكافل والتضامن، حيث كانت الفجوات محدودة بين مختلف فئات الشعب الفلسطيني وأحياناً حتى على المستويات الاجتماعية والاقتصادية، كما أنّ وجود قيادة وطنية موحدة ولجان شعبية في كل مكان وعلى امتداد الأرض المحتلة قد أربك الاحتلال واجهزته، علماً أنّ الانتفاضة جاءت في سياق تطورات دولية واسعة بانهيار الإتحاد السوفييتي وعربياً باندلاع حرب الخليج، و محلياً بتراجع دور (م.ت.ف) وعزلها وشعورها بالعجز نسبياً بعد الخروج من لبنان، وكان قد شكل انعقاد المجلس الوطني التوحيدي في الجزائر في نيسان 1988 محطة هامة ألقت بظلالها على الشعب الفلسطيني بأسره وعلى الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة بشكل خاص، وكان بطل هذه الدورة هو أمير الشهداء أبو جهاد الذي قاد الحوار الوطني بشجاعة وبحكمة وصبر، وصولاً إلى تتويج الحوار بانعقاد دروة المجلس الوطني التوحيدي، وانطلاقاً ن إيمان أبو جهاد وقناعته وأدراكه بأنّ وحدة الشعب والمنظمة هي حجر الأساس في مواجهة الاحتلال، علماً أنّ الأرض المحتلة كانت تعتبر ساحة ثانوية لدى قيادة (م.ت.ف) وفصائلها على الصعيد العملي في تلك الفترة، ولم تتجاوز موازنة الأرض المحتلة حتى إندلاع الانتفاضة 6% من موازنة (م.ت.ف)،  ثم إرتفعت إلى 10% من الموازنة بعد إندلاع الانتفاضة، مع أهمية الإشارة إلى أنّ توفّر الإرادة السياسية كان أحد أهم أسباب اندلاعها واستمراريتها، تماماً كما كان توفّر الإرادة السياسية سبب إندلاع وإستمراية الإنتفاضة الثانية، إنتفاضة الأقصى.

اليوم، وبهذه المناسبة التي تأتي في ظروف تتعرض فيها قضية فلسطين لأكبر محاولات التصفية، وقوات الاحتلال تداهم كل حارة ومدينة في الضفة والقدس، والاستعمار العسكري يعيد الإمساك منذ نحو عقد بتفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، وتواصل مشروع التهويد على مدار الساعة، والاعتقالات التي طالت عشرات الآلاف، والحصار الوحشي على غزة منذ ما يزيد عن 11 عاماً، وحالة الانقسام التي تعصف بالهوية الوطنية وتهدد الأرض والشعب والنظام السياسي الفلسطيني ككل، وحالة العجز التي يتصف بها النظام السياسي الفلسطيني وحالة التآكل والعجز التي تمرّ بها (م.ت. ف) والفصائل عن القيام بمسؤولياتها التاريخية، وتعطل الحياة الديمقراطية ومؤسسات التشريع و صنع القرار الوطني التشاركي، عبث الفساد ورموزه بمصير الشعب الفلسطيني، وانتهاكات التي لا تتوقف لحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية الرأي والتعبير والصحافة.

في سياق يتهالك كهذا يستدعي ذكرى الانتفاضة المجيدة منا جميعاً أن لا نضع رؤسنا في الرمال،  وأن ندرك أنّ الشعب الذي صنع الانتفاضة الأولى والثانية قادر على صنع إنتفاضة ثالثة ورابعة، ولن يستكين أو يتراجع، ورغم كل شيء فان شعبنا لديه مخزون نضالي لا ينضب وطاقة هائلة على التضحية والتقدم إلى الأمام رغم الجراح والخذلان،  وما نحتاجه هو إعادة الاعتبار لخطاب التحرر الوطني ولقيم التضحية والفداء والنضال والتكافل والعمل التعاوني والطوعي والعمل الوطني، والمطلوب هو احترام شروط وقواعد مرحلة التحرر الوطني وتغليب التناقض الرئيسي مع الإستعمار على كافة التناقضات الثانوية، علماً أنّ ما يحدث هو العكس تماماً.  لم يعد من المبرر لأحد أن يتهرب من مسؤولياته مهما كانت مبرراته، الكلّ مطالب بالعمل الجاد والصادق والفوري لإنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة والوحدة وإعادة الحياة للعملية الديمقراطية والعودة للشعب السيّد والحكم والفيصل لتوليد حالة وطنية جديدة قادرة على مواجهة مشروع التصفية، إن تجسيد الشراكة الوطنية الكاملة والخروج من مأزق الشرذمة والانقسام والعجز والانتقال إلى مربع الاستنهاض وشحذ الهمم والوحدة والتلاحم وحالة الاشتباك مع الاستعمار، هذا هو القانون الناظم لعلاقة الشعب المستعمَر مع الاستعمار، وهو الدرس الأكيد الذي قدمته الانتفاضة المجيدة التي لم تستثمر تضحياتها لنيل الحرية والعودة والاستقلال كما يجب.

التعليقات